للذاهبين إلى مدينة الإسكندرية أقول لكم، لقد تغيرت خريطة شارع النبى دانيال، أشهر شوارع مدينة الإسكندرية الثقافية، وفقد كثيرًا من هويته وخصوصيته، وتحول إلى مجرد ممر يربط بين محطة مصر وميدان محطة الرمل، بما يعكس التغير الكبير الذى أصاب المجتمع المصرى فى كل شىء، ومنها أماكنه.
نعم أسوأ ما يصيب الأماكن أن تتحول إلى مجرد وسيلة لتحقيق غاية نفعية، وتخسر دورها المعروف لها، والذى حقق مجدها، وفى شارع النبى دانيال أصبح الحال مقصورًا على الوصول إلى «مصلحتك» المكانية، سواء أكانت فى نهايته أو فى أحد الشوارع الفرعية الكثيرة المتفرعة منه والمتقاطعة معه، ولم تعد تستطيع أن تتوقف لتقول إنك فى حضرة الجمال السكندرى.
ولمن لا يعرف، فشارع النبى دانيال يعد من أقدم الشوارع فى المدينة القديمة، وذلك لكونه موجودًا منذ قام الإسكندر الأكبر بإنشاء مدينته، لكنه صار الآن ضيقًا ضائعًا وسط الزحام، والتدافع الذى سيطيح بك إذا فكرت أن تتوقف لتتأمل أيًا من معالمه التراثية، ستسير للأمام فقط، ولن تعرف مصدر هذا الزحام، فقط سترى الشارع طوال الوقت غارقًا فى الضجيج.
شارع النبى دانيال الذى كان عبارة عن «سور أزبكية القاهرة» بمكتباته المتناثرة، وكتبه القديمة، ومجلاته النادرة، تقلصت هذه الرقعة تمامًا، وأصبح الموجود منها مجرد عدد قليل يعد على أصابع اليدين فى صورة لن تشبع عينيك، ولن تحس بحضور الكتاب أبدًا، وذلك فى مقابل انتشار محال بيع الأشياء الاستهلاكية بشكل كبير، حتى إن الأمر- بسهولة- سوف يذكرك بما حدث لشارع الفجالة فى القاهرة عندما زحفت محال السيراميك على المكتبات وأطاحت بها.
ستصل لنهاية الشارع دون أن تدرك أنك مررت على قدر كبير من السحر المتمثل فى المبانى الأثرية والتراثية، فوسط هذا الزحام لن تنتبه إلى المعبد اليهوى، ولا إلى مسجد النبى دانيال، ولا إلى الكنيسة المرقسية أقدم كنيسة فى مصر وأفريقيا، التى بنيت فى القرن الأول الميلادى، وشكلت جزءًا مهمًا من تاريخ مصر، وتاريخ المسيحية فى العالم، ولا غيرها من المبانى ذات التراث الحضارى، لن تنتبه للغموض الذى يشبه السحر الذى ينبعث من زوايا المكان، فالمسجد المسمى باسم النبى دانيال، والذى ينسب للشيخ محمد دانيال الموصلى، أحد شيوخ المذهب الشافعى، الذى رحل 810 هجرية، ودفن فى المسجد، سيضعك فى حيرة عندما تعرف أن المعبد اليهودى ينسب إلى «دانيال» أحد أنبياء بنى إسرائيل، وهنا لا تعرف الحقيقة من الخيال، بما يصنع أسطورة المكان.
الشارع الذى يعتقد أن الإسكندر الأكبر اختاره ليدفن فيه، أصبح يعانى بشكل لا يصدق، وعلينا إن كنا نريد عودة السياحة لمصر أن نبدأ بهذه الأماكن التى يعرفها العالم، فنعيد لها سحرها وبريقها.