يراد بالإجماع اتفاق فقهاء عصر من العصور التى تلت عصر النبوة على حكم مسألة ما، كاتفاق الصحابة على أحقية الصدِّيق بخلافة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بعد أن اختلفوا اختلافًا شديدًا حول هذا الأمر، حيث كان الأنصار يرون أنهم أحق بها لأنهم هم الذين نصروا الدعوة بعد أن كادت تختنق بمكة، وكان المهاجرون يرون أنهم أحق بها لسبقهم فى الإسلام، وتحملهم مع الرسول صنوفًا من الأذى وتركهم ديارهم فرارًا بدينهم، بالإضافة إلى أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منهم، وكثير منهم له قرابة معه، وقد وقع خلاف بين المهاجرين أنفسهم بعد أن سلم الأنصار بأحقية المهاجرين فى الخلافة، فكثير من المهاجرين يصلح لها، حتى استقر الأمر على الصدِّيق خليفة للمسلمين. ومن الإجماع أيضًا اتفاق الصحابة على قتال مانعى الزكاة إنكارًا وجحودًا بعد خلاف دار بين الصدِّيق وعمر، رضى الله عنهما، فعمر الشديد فى الجاهلية والإسلام يعارض قتالهم لأنهم ينطقون بالشهادتين ويصلُّون، ورسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، منع قتال من نطق بالشهادتين، حيث يقول: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»، ومانعو الزكاة يشهدون أن لا إله إلا الله. أما الصدِّيق المعروف بالرقة واللين فيرى قتالهم لأنهم أنكروا ركنًا من أركان الإسلام، فلمَّا كانوا يقاتَلون إذا أنكروا الصلاة، فكذا إذا أنكروا الزكاة، ولذا قال: «والله لأقاتل من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال»، والإجماع منعقد على قتال من ينكرون ركنًا من أركان الإسلام، مع مراعاة أن هناك فارقًا كبيرًا بين المنكرين الجاحدين والتاركين تهاونًا أو تكاسلًا مع إقرارهم بالحكم الشرعى، فالتاركون تهاونًا عصاة لا يقاتَلون. ومن صور الإجماع كذلك إجماع الصحابة على جمع المصحف بعد أن مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو متفرق على خرق من القماش والجلد ونحوهما، وغير ذلك من الوقائع التى اتفق الصحابة على رأى واحد فيها مما لا نص فيه من القرآن أو السنة.
والإجماع الذى هو اجتهاد فقهاء عصر من عصور الإسلام وانتهاؤهم إلى رأى واحد فى حكم مسألة ما، هو المصدر الثالث من مصادر التشريع فى شريعتنا الإسلامية، وهذا الاتفاق الحاصل من المجتهدين يكون بعد التدقيق فى آيات وأحاديث الأحكام، وبعد مراجعة مقاصد الشريعة الإسلامية والسير على هدى نصوصها ونهجها فى دفع الضرر ودرء المفاسد وجلب المصالح. وهذا الإجماع حجة شرعية، والحكم المستفاد منه ملزم للمكلفين كأنه مأخوذا من القرآن أو السنة، لأن الإجماع فى حقيقته سير على نهج نصوصهما، ولذا فلا يجوز لمكلف ترك الحكم المجمع عليه من فقهاء عصر من العصور بدعوى أنه ليس فى كتاب الله أو سنة رسوله، لأن الفقهاء الذين توصلوا إليه إما أنهم وقفوا على مستنده المنصوص عليه من سنة لم تصلنا، أو أن المستفاد من نصوص التشريع فى مثيل الواقعة محل الاجتهاد يقضى بوضوح بهذا الحكم الذى أجمعوا عليه، وإلا لوقع بينهم الخلاف كما هو الحال والشأن فى غالب الفروع الفقهية.
ويعرف أهل الاختصاص والدارسون لأصول الفقه مباحث كثيرة تتعلق بالإجماع وحجيته وأنواعه وشروطه، مما لا يتسع المقام لبيانه فى هذه المساحة، وما يعنينا هنا هو اختلاف العلماء فى انعقاد إجماع من أهل زمان يخالف إجماع فقهاء زمان سابق على زمانهم، بمعنى أنه إذا انعقد إجماع الصحابة مثلًا على حكم واقعة معينة، وذكروا لها حكمًا بالإباحة أو التحريم أو الندب أو الكراهة، فهل يجوز لفقهاء عصر التابعين مثلًا أو فقهاء عصر تالٍ لهم أن يجتهدوا فى نفس المسألة مرة أخرى؟