أحس أن أوتار القلب مضبوطة على إذاعة القرآن الكريم.
الأمر ليس دينيًا بالمرة.
يمكن إرجاعه إلى عوامل تتعلق برائحة الخرسانة المسلحة، وباقتصاديات القادمين من الريف إلى المدن في مقتبل تسعيننيات القرن الماضي!
(2)
في التجارب التي وجدوا فيها أن نوعا بعينه من الموسيقى بمقدوره أن يكسر البلور، بعد إعادة ترتيب ذراته من الداخل، يمكن أن تصلح مدخلًا لفهم هذه العلاقة.
ففي هذه الإذاعة شيء ما يعيد ترتيب كيانك بأكمله، الدم الساري في العروق (كيف يسري وبأي معدل؟)، تراكب الفقرات والمفاصل على بعضها البعض، مسلك الهواء في صدرك، كيفية التقاط أذنك لصوت العالم بالخارج.. كل شيء يعيد ترتيب نفسه بنفسه داخلك.
أكرر مرة أخرى، آخر عنصر في سحر هذه الإذاعة هو محتواها!
(3)
ينبغي تقصي البدايات كي نفهم المآلات.
في تسعينيات القرن الماضي، نشأت في منزل لأبوين متعلمين، مدمنيين للراديو. هي فقط إذاعة الشرق الأوسط وإذاعة البرنامج العام من حين لآخر او لعله العكس.
كي أسمع إذاعة القرآن، كان لابد أن أذهب لمنزل أحد الأصدقاء أو الأقارب الذين يعيشون نمطا بعينه، فهم لأسباب لا أفهمها يسمعون هذه الإذاعة طوال اليوم في منازلهم.
في الأغلب لديهم بيوت ملك، في مناطق متوسطة أو فقيرة، تتاخم عادة أماكن زراعية على أطراف القاهرة، نتكلم عن المرج وإمبابة مثلا.
حيث أولئك الذين لم يستوعبوا أن يأجروا شققا لدى آخرين، فبنوا بيوتًا متوسطة القيمة الجمالية، واسعة المساحة عادة. وفي الدور الأول غرفة لاستقبال الضيوف تشبه "مضايف" الأرياف.
الغرفة في الأغلب "على المحارة"، بها كنبتان مزدانتان بقماش مزركش، ومنضدة من الخشب الحبيبي أو مكتب إيديال معدني قديم، وفي الركن راديو مضبوطٌ بثه على إذاعة القرآن الكريم، لا يزحزح المؤشر عنها شيئا.
حين تضطرني الظروف أو الصدف لدخول هذه الغرفة التي تبدو مستنسخة في هذه البيوت وهذه الثقافة، كانت إذاعة القرآن الكريم هناك دومًا.
صوتها مرتبط شرطيا برائحة الأسمنت، رائحة المحارة، مشهد الطوب الأحمر، ملمس الكنب.. ثم هذا العبق المتسلل من الزراعات التي تبعد عن هذه البيوت كيلومترات معدودة بما يكفي لأن تتسلل لأنفك.
في هذه الأجواء كنت أحس مذاقا بدائيا للحياة بعض الشيء، ويستهويني هذا الشعور، شعور الارتداد لسنين خلت.
يقول لي صاحبي الذي سكن إمبابة: الصعايدة لديهم كتالوج واحد يسيرون بموجبه، ففي الثمانينيات والتسعينيات أي صعيدي يصادف فرصة ثراء، يبني بيتا في إمبابة ويشتري سيارة بيجو 504، أيا كان مقدار ثروته، العقول مضبوطة على هذا الحلم فحسب.
ومن ثم، في هذا العالم، حيث البشر متطابقون في الماضي والحاضر والمستقبل كأنهم روبوتات، تمثل إذاعة القرآن الكريم ملمحين أساسيين.
الأول: أنها بمثابة تميمة حظ وطمأنينة، إذاعة مثالية تبث القرآن طوال الوقت، بما قد يجلب الرزق ويطرد الحسد ويوفر الطمأنينة، وهو غرض نصف براجماتي، يوائم نفسية المصريين كثيرا.
ثانيا: كانت مصدر معرفة لدى أولئك الذين يحفظون القرآن ويحبونه، ويتعلمون نذرًا من العلوم الدينية من برامج المحطة، وكانوا في أغلبهم من طلاب الأزهر الشريف.
وهذا العالم كان محببا إلى النفس بصورة أو بأخرى.
(4)
هذه الإذاعة بتسجيلاتها تمثل لي البقية الباقية من "الدين" برونقه الأول، قبل أن تخالطه الشوائب وقبل أن تصادره السياسة والتجارة لحسابهما.
حيث القرآن مايزال قريب عهد بالله وحيث آياته مفهوم مقاصدها لا موجهة مع الإخوان وأشياعهم وهم يقولون "موتوا بغيظكم"، أو حيث هي موجهة مع غيرهم وهو يقلب المعنى كيف يشاء حيث تقلبت مصلحته.
في إذاعة القرآن الكريم، أحس أن الدنيا بريئة، وأن المنازل ذات الرائحة الإسمنتية التي تعكس قصة كفاح نازح من القرية إلى المدينة تمكن من بناء بيت، مازالت تحتويني.