اتعجب كثيرا لأمر العشرات من الزملاء الصحفيين فى هذه المرحلة الدقيقة والحرجة من عمر البلاد، وكأن الدنيا قد ضاقت بهم وأصبحت مصر بلا احداث حقيقيه وواقعية وملموسة يمكن نقلها أو نشرها، أو انه اصبح لا يستهويهم سوى الاخبار التى لا سندلها، أو تصيد معلومات لبناء قصة وهميه ووضعها فى صدارة الصفحات، لتتحول الى مادة دسمه للنميمه تنسج عليها قصص وحكايات لا اساس لها من الصحة، تنتهى الى انه لا خبر ولا قصة، وان المسئلة برمتها لا تتعدى (الفرقعة) التى تضر بالبعض، البعيدة عن المهنية لملو صفحات وهواء بلغط مثير، لدرجه حولت عدد من الصحف (بلا مصدقيه) ومحل تشكيك دائم من القراء، فى توقيت تتهافت فيه كبريات الصحف ومحطات التليفزيون العربية والأجنبية على فتح مكاتب لها بالقاهرة لكونها مركزا لصناعة الاحداث.
وحتى يعلم البعض قيمه العمل الصحفى البناء البعيد الفرقعة والفبركة والتفاهة، أذكر انه فى منتصف الثمانينات من القرن الماض، حدث نزاع رهيب ـ افتعله الامن ـ داخل حزب العمل الاشتراكى الذى كان يرأسه فى ذلك الوقت وزير الزراعة الاسبق والسياسى القدير المهندس ابراهيم شكرى ، فى مواجهه احمد مجاهد الذى حاول عزل شكرى والانفصال بمجموعته عن الحزب، واستحوزت الازمة على اهتمام الاوسط السياسية والاعلامية والجماهيرية، فى ظل تغطية اعلامية شابها المجاملات الامن من اجل القضاء على أحد اقوى الاحزاب المعارضة فى مصر فى ذلك الوقت.
واذكر اننى فى تلك الفتره كنت اعمل فى مكتب واحدة من اكبر واعرق الصحف العربية وأكثرها انتشارا على مستوى العالم، واستفزرنى طريق عرض الازمة وطريقه تناولها مستندا على ما يتم تناوله من احداث من منظور احادى يعزز الاتجاه الامنى للقضاء على الحزب، واقترحت على ادارة الجريدة فى لندن إجراء حوارين منفصلين مع طرفى الازمة، على ان يتم نشرهما متقابلين فى صفحة واحده وبأسئلة واحدة، وهو ما حدث بالفعل.
ولان الحوارين كانا على قدر كبير من الموضوعية ، فقد ساهما كثيرا فى نقل وجهة نظر الرجلين الى الشارع والسياسيين ولجنة الاحزاب، وساعدا كثير من السياسيين المرموقين على فهم ابعاد الازمة، ووجهة نظر الرجلين، وقرروا التدخل لانقاذ الحزب، وهو ماتم بالفعل، وصرح به المرحوم شكرى وقتذاك لاجهزة الاعلام، مشيدا بالعرض الذى ساهم فى انهاء الازمة.
وماهى الا ايام، حتى فوجئت بتليفون من المهندس ابراهيم شكرى يشكرنى ويدعونى فيه لحضور حفل عشاء (سرى) وخاص فى منزله على شرف الرئيس الفليسطينى الراحل (ياسر عرفات).
وبالفعل ذهبت الى منزل المهندس شكرى فى الموعد المحدد، فوجدت العدد مقصورا على عدد من الشخصيات، لم يكن بينهم من الصحفيين سواى والصديق محمود بكرى.
وما ان انتهينا من العشاء وجلسنا مع الرئيس (عرفات) حتى بادرت باستئذانه فى الرد على عدد من التساؤلات، وبالفعل وافق الرئيس وابدى استعداده على ان يكون الحوار امام الجميع، وبالفعل بدأت مع الصديق بكرى فى توجيه اسئلة صعبه جدا للرئيس عرفات .
وفجأة توقف قبل الاجابة على سؤال يتعلق بشيء داخل منظمة التحرير، وانفجر ضاحكا وهو يهز رأسه قائلا: (والله انى لأحسدكم على ما وصلتم ايه من مهنية ايها الصحفيون المصريون.. لقد اصبحتم تعادلون فى مهنيتكم وأدائكم اقوى واعرق الصحفيين فى العالم .. ولكن هل ستسمح لكم صحفكم بنشر كل ما اقوله ؟) فأجبته : نعم بالتأكيد.. فرد عرفات: (ان استطعت فسأوجه لك شكرا خاصا).. وبالفعل تحدث الرجل بصراحة مفرطة وخطيرة وحساسة امام الجميع، فى ظل قناعة شخصية منه انه لن يستطيع اى منا ان ينشر ما يقول.
وفى اليوم التالى كانت تصريحات عرفات الخطيرة والدقيقة جدا وبكل امانه "المانشيت" الرئيسى للصحيفة العربية الشهيرة.. وفوجئت مساء بالمهندس ابراهيم شكرى يتصل بى، وينقل لى تحياتى وشكر الرئيس عرفات على امانة العرض، على الرغم من حساسيته.
اؤكد ان ما قصصته لم اقصد به التباهلى او استعراض بطولة، ولكن فقط لأؤكد على (قيمه العمل الصحفى المحترم وتأثيره، وما للصحفيين المصريين والصحافة المصرية من مكانه لدى الساسة منذ سنوات) وانه لا يليق بنا ان يتصدر المشهد مجموعة من (معدومى الموهبة) يصدرون لنا يوميا عشرات الاخبار الوهمية، واختلاق قصص لا اساس لها من الصحة، وفى النهاية ينكعس الامر برمته على كامل الجماعة الصحفية، فى غيبة القواعد الصارمة التى تمكن نقابة الصحفيين من التصدى لمثل هؤلاء.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل الصحفيون منا، ومكن نقابه الصحفيين من محاسبة الدخلاء و معدومى الموهبة.