يقولون إن الأزمة ليست فى الخصومة، بل فى الفجر فيها، ويقولون، أيضا، إن القضية ليست فى اختلاف الآراء، ولكن فى تحول الخلاف الفكرى إلى فعل تجريح وتشويه، ويقولون، أيضا، إن المشكلة ليست فى الحوار بل فى تحوله إلى حفلة شتائم، ويقولون، أيضا، إن النزاهة فى لعبة الملاكمة فى اتباع تعليمات احترام الخصم والحفاظ على حياته وليست فى ضربه تحت الحزام فى غفلة من عين الحكم، ويقولون، دوما، إن أزمتهم ليست مع التظاهر كفعل تكفله الحرية ويعززه الدستور، بل أزمتهم مع المتظاهرين المتطرفين الذين يتجنبون التعبير عن مشاكلهم بالرأى ويلجأون إلى التخريب.
وفى قولهم، جميعا، تجسيد لرفض التطرف، التطرف فى الخصومة وفى الحوار وفى التعبير عن الآراء، والعبارة الشهيرة تكفل اختصار ذلك المعنى بنصها على أن الصوت العالى هو أسوأ سفير للتعبير عن قضيته حتى وإن كانت قضية حق.
تلك أزمة إسلام بحيرى العائد إلى النور بعد غياب فى السجن تحت وطأة قضية مرفوضة المسمى والتوجه اسمها ازدراء الأديان، وتتضخم أزمته فى أنه ينصب نفسه محاربا للتطرف دون أن يدرى أنه يستخدم سلاح التطرف للدفاع عن قضية هو أسوأ سفير لها إن جاز المسمى.
عاد إسلام للنور بعد شهور السجن ليخبر الرأى العام بأنه آخر سجين رأى، قول قطعى يتنافى مع رجل يصف نفسه بالباحث المتبع للمنهج العلمى، عاد وهو يقدم شكرا ومدحا فى شخص وزير الزراعة الأسبق المسجون فى قضية رشوة وفساد وكأنه يحدثنا عن ملاك لا عن مجرم أدانته المحكمة فى قضية جرمها ثلاثى خيانة أمانة وظيفته والرشوة والتلاعب فى أملاك الدولة.
رأى إسلام بحيرى فى الوزير المرتشى ملاكا فى السجن لأنه أحسن معاملته، ولم يتعلم إسلام البحيرى مما صاغه هو بنفسه، بخصوص أن حسن المعاملة قد يغض طرف الناس عن نواقص الأشخاص وجرائمهم أحيانا، وعاد إسلام بحيرى ليمارس هواياته فى التعامل مع كتب الفقه والتراث الإسلامى دون أن يتعلم درس حسن المعاملة.
وبدلا من أن يناقش الفكرة بالفكرة والكلمة بالكلمة عاد مجددا ليستخدم مصطلحاته الحادة التى تصل إلى حد التشائم، وهو يتكلم عن الإمام الشافعى والبخارى، منطق إسلام فى تجديد الخطاب الدينى بإزالة القدسية عن رجال الدين وكتب الفقه والتراث الإسلامى، ربما يكون صحيحا ونتفق معه، ولكن إزاحة القدسية عن أى شىء لن تتم بالتطرف ومرض التطرف الدينى لن يكون علاجه التطرف بل العلم، ثم العلم، والعقل ثم العقل.
لم يتعلم إسلام بحيرى ومعه الشيخ ميزو وكل هواة الفرقعات الدينية، أن أسلوب إيناس الدغيدى الفج سينمائيا لم ولن يصلح مع قضية تجديد الخطاب الدينى، لم يتعلموا أن هذا الوطن لا يمكن أن يقتنص خطوة واحدة للأمام دون معارك فكرية شرط أن تتم على طريقة العلماء لا فتوات الحارات أو رداحات الشوارع.
كنا ومازلنا الأشد احتياجا لمعركة التجديد، العقل ضد النقل، التفكير ضد السمع والطاعة، الاجتهاد ضد الدوران فى فلك عبدة النص، التطهير والتنقيح والتحقيق ضد التقديس وإنزال كتب بشرية منزلة كتاب إلهى، نحتاج إلى هذه الحرب الفكرية حتى لا نسقط فى فخ الماضى وما يرافقه من تطرف.
الحاجة إلى تلك الحرب ضرورية، ومن يخوضها بلا شك شجاع، ولكن من يشعلها أو يقرر خوضها قبل أن يسأل أى شكل لهذه الحرب نريد؟ يجعل من شجاعته حماقة، ويكتب للحرب نهايتها الفكرية معلنا دوام نارها تأكل بعضها وتصيب الناس بذعر وخوف يردهم إلى حالة السكون.
يحدث هذا لو أخطأ أحد أطراف الحرب، ونقلها غرض فى نفسه من إطارها الفكرى إلى هوى المصالح وفخ الشعبوية، فما بالك لو أن أطراف الحرب كلهم قد سقطوا فى نفس الفخ، فخ سوء اختيار الشكل الذى قرروه لهذه الحرب «التجديد الدينى»؟!
ضجيج بلا طحن وتكسير عظام بلا نتيجة، هو محصلة معركة تجديد الخطاب الدينى التى يوهمنا أطرافها أنهم يخوضونها الآن من أجل المستقبل، تابع تفاصيل المشهد الدائر الآن بين مكعبات الحجارة التى يلقيها إسلام بحيرى فى مياه التراث الإسلامى الراكدة، وبين الرد الأزهرى الطفولى الذى يفضل الشكوى على الحوار، وبين وسائل الإعلام التى تقف على ضفة أخرى بعضها يتربص فى انتظار لقطة ساخنة أو مشادة مثيرة.
هؤلاء الثلاثة، إسلام كمتفاخر بلقب «هادم التراث» وهو لقب يدين إسلام قبل أن ينصفه حتى إن أعلن مهمته تقليب الأرض وتنقيح وتحقيق القديم من الكتب المهملة، لأن استنارته تخذله ويغلبه هواه فلا يجيد اختيار الطريق الأمثل لخوض معركته، فيحركه الغرض الكامن فى نفسه لاختيار السيئ من الألفاظ وزيادة جرعة السخرية وإهانة كل قديم من فقهاء وعلماء وأئمة بعضهم بذل فى زمنه ما فى وسعه للجمع والتجديد، فلا يصح أن تأتيه طعنة السب والسخرية من باحث يدعو الناس لإعادة النظر إلى التراث أو الخطاب الدينى وفق تطورات العصر الحالى، ولا يصح أن يكون عموده الأساسى فى الحرب على بعض الفقهاء المتطرفين أو المدلسين، كما يقول، هو التشكيك القائم على السخرية والاستهزاء لا العلم ورد الحجة بالحجة.
الأزهر كطرف ثان، يشارك فى جريمة وأد معركة تجديد الخطاب الدينى، لأن المطلوب من المؤسسة الدينية الأزهرية أن تكون نبراسا للمواجهات الفكرية، لا مكتب شكاوى واتهام بالتطرف والتكفير، المطلوب منها أن تخوض معاركها كالعلماء والمفكرين، لا كأمناء الشرطة والمخبرين، والإعلام كطرف ثالث، مطلوب منه أن يكون مائدة لاستضافة الحوار وتحديد معاييره لا أن يكون «بوتاجازا» يعلى من نار شعلته لتسخين الأجواء والحصول على «شو» يجلب عددا أكبر من المشاهدين.