يبدو حال الشارع المصرى يرثى له الآن، ليس بفضل الثرثرة السياسية غير المجدية حول الارتفاع الجنونى للأسعار، أو الانتقادات اللاذعة لأداء الحكومة والبرلمان، ولكن بفضل تحدى القانون الذى أدى لتولد سلوكيات عدوانية وعشوائية ناجمة بالضرورة من اختلالات نفسية واجتماعية أصابت الإنسان المصرى الذى كان يومًا "ابن نكتة". فبعدما كان المصرى يفلسف أعقد أموره السياسية والاقتصادية والاجتماعية على جناح الفكاهة المتفجرة من قلب الأزمة، وبعد أن كان معروفًا عنه حب الاختلاط والدفء العاطفى مع الإحساس بالمسئولية الأسرية، أصبح يتميز بما يسمى بالشخصية السلبية العدوانية الاعتمادية، مع تنامى شعور جارف نحو عدم التواصل والمثابرة والتغير المستمر، والعجز عن الابتكار والتصور الخاطئ للدين، وإهمال الواقع المادى والانغماس فى القرارات الانفعالية والعاطفية، وأخيرًا فوضى اللغة التى خاصمت رشاقتها ورونقها الجذاب لأذن كثير من أبناء العروبة!.
لقد أصبح احتلال الرصيف من جديد ملحوظًا، على جناح الضرب بكل قوانين المرور عرض الحائط، وهو ما تجسد فى ذلك الزحف اليومى العائد بجدارة للباعة الجائلين مرة أخرى، بعد أن كانوا قد اختفوا من منطقة وسط البلد، ليصبحوا بمثابة خلايا سرطانية جديدة تنهش المارة فى كل شوارع القاهرة ومنها على وجه الخصوص (شارع 26 يوليو - ناحية بولاق أبو العلا) ففى أثناء عبورك لهذا الشارع - النموذج الأمثل للفوضى - لابد أن تكون مدربًا تدريبًا شاقًا واحترافيًا، كى تستطيع القيام بحركات بهلوانية تساعدك على محاولات الهروب من بطش "عفاريت الأسفلت" من سائقى "الميكروباص والتوك توك، أو ذلك الطوفان الهادر من الدرجات البخارية الحاملة لموت اضطرارى بصفة يومية"، لقد صار كل هؤلاء من المتنطعين برحابة صدر تعلوها ثقة زائفة أشباحًا ليلية فى قلب القاهرة، فأضاعوا سحرها، ونزعوا بهجتها وبهاء طلتها التى كانت يومًا تسر ناظريها من المصريين والعرب.
ومن فرط عشوائية المشهد البائس لفوضى الشارع القاهرى الحالى، ظاهرة توقف سائقى تاكسى الأجرة لالتقاط الزبون من أى مكان أشرت له فيه، بغض النظر عن الإشارات المانعة، أو حرم الطريق المحتل بعد أن اختفى بلا رجعة، بفضل عودة الباعة الجائلين الذين لا يعدمون وسيلة فى التنطع ليصطفوا ثانية فى أغلب الميادين المكتظة بالناس وفى انتظام غير مألوف تراهم يعبثون بكل شيء يوحى بعراقة المكان، بينما تنبعث روائح كريهة من كل صنف ولون تزكم الأنوف فى صهد الأيام الحارة، أو تمنع عليك مجرد الاستمتاع بنسمة باردة قادمة من رحم خريف محرض على الشتاء.
ما يزيد الطين بله فى قلب كل تلك المشاهد العبثية هو انهيار أخلاقيات المواطن المصرى المشحونة دومًا بالغضب، فما أن تقترب من أحدهم بطريقة لا ترضيه، وهو المتنطع فى عرض الطريق، فإما أن تضبطه عادة فى حالة تلبس معترضًا عليك طريقك بسيارته فى تحدٍ سافر، غير عابئ بشرطى -غض الطرف عنه- أو قانون يمنعه من ممارسة لهوه البائس، وسواء كنت مستقلاً سيارتك أو سائرًا على قدميك لابد أن يصيبك قدر من زئير أسد تواق لنهش جسدك بمخالبه فى تحدٍ وعلانية، حين ينتفض نحوك ويلقى بأقذع الشتائم والسباب، وغالبا لا يدع لك فرصة واحدة للفوز بوقت كافٍ للوصول إلى عملك أو مدرستك أو جامعتك سالمًا، اللهم إذا مررت على طبيب نفسى يعيد إليك توازنك وأنت مقبل على يوم شاق من العمل المضنى.
ظنى -والله أعلم- أن التنطع بتعطيل مصالح الناس أصبح دربًا من دروب الجنون المصرى الخالصة لوجه الله والوطن، خاصة أننا لا نواجه حفنة واحدة من المتنطعين فى تحدٍ سافر للقانون والأعراف والأخلاق، وغيرها من مفاهيم تقابل عادة من المواطنين المشغولين بلقمة عيشهم بشق الأنفس بالرفض والاستنكار الذى يرقى لمستوى التشابك بالأيدى - على أهون سبب - دومًا، بعدما أصبح "التنطع" لساعات طويلة فى قلب الشارع ظاهرة مصرية أصيلة تتنامى يوميًا وبسرعة مذهلة، سواء جاء ذلك على جناح الجدل السياسى والاقتصادى همسًا أو مجاهرة، فى لحظة تواطأت معها جيوش جرارة من الباعة الذين أصبحت تتنوع بضاعتهم فى البيع والشراء لصنوف "الملابس والجوارب والموبايل والساعات وكل مستلزمات الحياة من البضاعة الصينة الرديئة"، والعجيب فى الأمر أن المارة يتكالبون عليها باختلاف مستوياتهم الاجتماعية.
الواضح للعيان فى قلب اللوحة القاهرية الشائهة حاليًا أن العشوائية مع التنطع أصبحتا أسلوب حياة لدى كثير من المصريين الذين لا يلقون بالاً بالقانون أو القيم التى ضاعت فى الزحمة على إيقاع مهرجانات الأغانى الجنونية الباعثة على الفوضى والنشاز، والأخيرة تعد ظاهرة فوضوية بامتياز، وهى تنم بلا شك عن حالة ارتباك هيسترى انتابت أولئك المتنطعين بفضل الفلتان المستمد من فائض الثورية التى لا تجد طريقًا للنهاية فى ربوع القاهرة وباقى أطراف المحروسة.
إن سيرك ليوم واحد فى شوارع القاهرة فى ميدان رمسيس، أو الإسعاف أو وسط البلد كفيل بأن ينسيك جمالها الفاطمى برونقه الأصيل، ذلك الذى كنت تشتم فيه رائحة البخور والتوابل المنعشة قادمة من "خان الخليلي" مسقط رأس نجيب محفوظ بالجمالية، أو نقاء ألوان الخيامية فى الدرب الأحمر، وإذا صادفك حظك العاثر فى زيارة للدرب الأحمر حتما لابد أن تسقط من ذاكرتك مشاهد "باب زويلة" الذى كان أثرًا زاهرًا فى قلب العاصمة إلى أن تحول إلى مقلب قمامة تفوح منها روائح كفيلة بحدوث نوع من الإغماء السريع لمجرد الاقتراب منه، وكذا الأمر فى باب الفتوح، وباب النصر، وسبيل أم عباس، الذى تنعق فيه الغربان دون وجود نقطة ماء واحدة تروى عطش الظامئين.. هى مشاهد حية مؤلمة لعاصمة المعز، التى قال عنها الرئيس السيسى يومًا أنها "أم الدنيا وحتبقى قد الدنيا".
ترى: هل جاءت تلك المقولة على لسان الرئيس فى حينها مجرد أمنيات لرجل ثائر لم يدرك بعد حقيقة شعبه الذى يرى فى التنطع وسيلة للقفز على كل مكتسبات ثورتين لم تتحقق أهدافهما حتى الآن على أرض الواقع المرير، بفضل الفوضى وكسر قانون الشارع؟ أم هى إرهاصات تنم عن كبوة جواد سرعان ما يعقبها ثورة جديدة نحو تطهير النفس العليلة بفعل الانكسارات والظروف الاقتصادية الضاغطة، والتى استلزمت بالضرورة فقدان الثقة -بعض الوقت- وسرعان ما يفيق منها المصريون خير أجناد الأرض، ليؤكدوا صدق مقولة "جيمس برستد" فى كتابه الشهير "فجر الضمير": إن المصريين هم الذين أوجدوا الضمير الإنسانى، لأنهم أول من عرفوا الله وآمنوا بالعالم الآخر، ولم يتمكن أحد قبلهم من إدراك هذا الواقع.. نتمنى ذلك؟