يحار المرء أيما حيرة في التنبؤ بمن يرأس الجمهورية الخامسة العام القادم، إذ لم يعد بمكنة محلل أو باحث أو حتى متابع للشأن السياسي الفرنسي توقع فوز أي مرشح محتمل للانتخابات الرئاسية ٢٠١٧، ذلك أن كل التوقعات فيما يتعلق بالانتخابات التمهيدية لليمين الفرنسي جانبت الحقيقة، الغالب كان يتوقع فوز آلان چوبيه، رئيس وزراء سابق، أو نيكولا ساركوزي، الرئيس السابق، ويحل ثالثا فرانسوا فييون، لكن خابت كل التوقعات بفوز فييون، رئيس الوزراء في العهد الساركوزي وحجزه تذكرة التأهل واستئثاره بتمثيل اليمين.
اصطف اليمين الفرنسي إذن خلف فرانسوا فييون، وحسم أمره مبكرا نهاية نوفمبر الماضي، أعقب ذلك، قرار الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عدم ترشحه لفترة ثانية، الأمر الذي مؤداه فتح الباب لانتخابات تمهيدية لليسار الفرنسي في الفترة من ٢٢-٢٩ يناير ٢٠١٧ لاختيار مرشحا لليسار، مسلك الرئيس الفرنسي هولاند جد محمود، ذلك أن الرجل استشعر الخوف بعلمه بانخفاض شعبيته فآثر مصلحة حزبه على نفسه في سابقة تعد هي الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية الخامسة، هذا المسلك أتى متفقا مع القراءة الصحيحة للمشهد السياسي الفرنسي. ذلك أنه لو تشبث بترشحه لفترة ثانية، لما كان ثمة انتخابات تمهيدية لليسار نهاية يناير المقبل، إذ جرى العرف على الاصطفاف خلف الرئيس إذا ما قرر خوض الانتخابات لفترة ثانية.
بعد الإعلان النهائي عن سبعة مرشحين رسميين للانتخابات التمهيدية لليسار، تكون خارطة المشهد السياسي الفرنسي قد اتضحت معالمها وترسمت حدودها.
يخوض إذن الفائز في الانتخابات التمهيدية لليسار، الانتخابات الرئاسية أمام فييون من اليمين ومارين لوپن من اليمين المتطرف والمارد المتمرد الصديق إيمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد السابق.
ولنبدأ بالمرشحين المحتملين للرئاسة وتبيان وافرية حظوظ كل منهم، يعقب ذلك ايضاح وافرية حظ اليسار، الحاكم الحالي، في الفوز في ٢٠١٧.
فرانسوا فييون: الفائز غير المتوقع في الانتخابات التمهيدية لليمين، والذي كان لفوزه جل الأثر في ارباك المشهد السياسي الفرنسي.
وافرية حظوظ فييون بالفوز بالرئاسة الفرنسية العام القادم لها ما يدعمها ويرجحها لدينا، غير خاف على أحد تنامي التيار المؤيد لليمين المتطرف بقيادة لوپن، ومع تضاؤل فرص اليسار في الفوز، سيما في ظل غياب المرشح الكاريزما، نستطيع القول بأن كل الظروف والعوامل تؤدي إلى وافرية فوز اليمين بقيادة فييون، ذلك أن الأمر لا يخلو من ثلاثة احتمالات مع استحالة حسم مرشح للانتخابات من الجولة الأولى:
احتمالية أن يصعد اليمين المتطرف إلى الدور الثاني لمواجهة اليمين، وهنا سوف يحشد اليسار كل طاقاته لإنجاح فييون مرشح اليمين، وقد حدث ذلك في الانتخابات الإقليمية عندما انسحب اليسار من انتخابات بعض الأقاليم ودعا إلى التصويت إلى اليمين لغلق الطريق أمام اليمين المتطرف.
الاحتمالية الثانية: أن تكون الإعادة بين اليمين واليسار، وهنا سيحتشد اليمين المتطرف خلف اليمين، الأقرب فلسفيا له، لإسقاط اليسار.
الاحتمالية الثالثة: أن يصعد المتمرد ماكرون للدور الثاني مع فييون، وهذا أمر مرجوح، وفِي تلك الفرضية، أعتقد بأن اليمين المتطرف سيقف مع فييون، ليس فقط اليمين المتطرف، لكن أيضا اليسار، نكاية في ماكرون، الذي غرد خارج السرب مبكرا.
استبعدت عن عمد احتمالية أن تكون الجولة الثانية بين اليسار واليمين المتطرف، ذلك أن شعبية اليسار متأثرة بالأحداث الإرهابية قد تراجعت، يضاف إلى ذلك غياب المرشح الكاريزما، ويعضد هذا وذاك تنامي ملحوظ لليمين المتطرف في أوروبا وفِي فرنسا بالأخص.
مارين لوپن: رئيسة اليمين المتطرف، التي تقتات على توظيف العمليات الإرهابية لصالحها، تحل ثانيا في احتمالية الفوز برئاسة الجمهورية الخامسة.
كان لفوز ترامب في الانتخابات الأمريكية تداعيات على المشهد السياسي الفرنسي، وأضحت حظوظ اليمين ومن يعلم، حظوظ اليمين المتطرف وافرة في الانتخابات الرئاسية العام القادم.
إيمانويل ماكرون: الذي استبق الجميع بإعلان ترشحه منفردا للرئاسة، مغردا خارج أي سرب، متحللا من ثمة قيود حزبية، وأغلال انتمائية سياسية. وأكد في الثامن من الشهر الجاري، رفضه كل الدعوات للتقدم للانتخابات التمهيدية لليسار، ثابتا على موقفه. أرى أن الشاب الطامح الطامع المارد المتمرد، قد استعجل حلمه، بانسلاخه من الحكومة ومن الحزب اليساري، وأخيرا رفضه دعوات الترشح للانتخابات التمهيدية نهاية يناير المقبل. ذلك أنه في ظل عدم ترشح هولاند لفترة جديدة، كانت فرصه أوفر، إذ إن كثير من أقطاب اليسار ومنهم جيرارد كولومب، عمدة مدينة ليون والملقب بالثعلب، أعلن عدة مرات قبل ذلك أنه في حالة عدم ترشح الرئيس الحالي، سيكون ماكرون هو مرشح اليسار.
الفائز في الانتخابات التمهيدية لليسار، والذي سنعرفه يوم ٢٩ يناير القادم، ولئن كان مانويل ڤالس رئيس مجلس الوزراء المستقيل مطلع الشهر الحالي، أقرب المرشحين لتمثيل اليسار في الانتخابات الرئاسية.
الضربات الإرهابية المتلاحقة أدت إلى تقويض شعبية اليسار، رغم انعقاد الإجماع على أن اليسار لم يدخر وسعا ولم يقتصد جهدا في محاربة الإرهاب، لكن درجت العادة على أن تتحمل الحكومة القائمة تبعات مجريات أحداث لا تملك لها ردا ولا دفعا.
ضبابية المشهد الدولي، والفوز غير المتوقع لترامب في الانتخابات الامريكية، أدى الي تعقيد الأمور أكثر فأكثر، ذلك أن رياح التشدد تبدو السمة الحالية للانتخابات في الغرب. وفتح شهية بعض الناخبين الفرنسيين للاتجاه نحو اليمين المتطرف على سبيل التجربة.
أبانت الانتخابات الحزبية لليمين عن ارتياح الفرنسيين إلى اليمين وبالأخص إلى رئيس الوزراء في العهد الساركوزي، فرانسوا فييون. الأمر الذي أضحى معقدا لليسار الفرنسي، ذلك أنه سيكون في مواجهة تكتل يميني قوي.
تضادية وتضاربية المواقف للمرشح الأكثر احتمالا في تمثيل اليسار في السباق الرئاسي، مانويل ڤالس، تسهم هي الأخرى في تضاؤل فرص فوز اليسار. سيما إسهابه في استخدام المادة ٤٩ فقرة ٣ من الدستور الفرنسي التي تتيح لرئيس مجلس الوزراء تمرير أي قانون دون الحصول على موافقة الجمعية الوطنية [البرلمان] ثم تتجلى تلك التباينية في المواقف بتصريحه عن عزمه حال فوزه، تغيير تلك المادة الشهيرة سيما الفقرة الثالثة منها، لم يقابل ذلك الفرنسيين بارتياح، إذ إنه استخدمها وطوعها لرغبته والآن يعد بتغييرها.
يعزى الفضل لليسار في إصلاح قانون العمل، رغم المعارضة الجارفة العارمة له، إلا أنه أقر في نهاية المطاف، لدرجة أن أستاذ قانون دستوري في جامعة باريس في حوارنا حول هذا التعديل، قال لي لم أعد أعلم أاليمين يحكم أم اليسار!! لكن لا أظن لمثل هذا إجراء تأثير على الناخب الفرنسي.
بمكنتنا استنباط أن فييون مرشح اليمين، هو الأوفر حظا في المرشحين المحتملين، المعلنين وغير المعلنين، لا ترجح كفة الرجل وفقنا لرأينا لكونه سياسي بارع أو متمرس، على العكس من ذلك، فالرجل مشهود له بالكفاءة الإدارية، فهو إداري من الطراز الأول، أما من الناحية السياسية فهو متواضع إلى حد بعيد.
بعد حسمه مقعد اليمين في الانتخابات التمهيدية، نلحظ تغيرا وتغييرا في خطاب الرجل، وفي أسلوب أدائه، نستطيع القول بأنه تم تسييس الرجل، ومحاولة طي فترة انغلاقه في الدولاب الإداري، وقبوله بأن يكون الرجل الثاني طيلة حياته العامة، والتي كان من الممكن أن تلقي بظلالها على احتمالية فوزه في السباق الرئاسي.
أبانت السطور الفائتة عن حظوظ كل مرشح محتمل في أن يسكن قصر الإليزيه، يبقى كل ذلك قراءة شخصية للمشهد الفرنسي، مطلقها لي ونسبيتها لغيري. لكن من منهم أو غيرهم سيسكن القصر ويتربع على عرش الجمهورية الخامسة، مقبل الأيام وقادم الأسابيع سيجيبنا على ثمة تساؤل.
أستاذ القانون الدولى والعلاقات الدولية بجامعة ليون