من القضايا التى ينشغل بها الناس، ويتكرر الجدل حولها مع بداية كل عام ميلادى جديد، حكم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، وما يقال فى كل عام يعاد من دون جديد يذكر، ومن دون حاسم يحسم الجدل الدائر بين الإباحة والتحريم، ولا أثر من تكرار هذه الأقوال سوى شغل مساحات من صفحات الجرائد ومواقع التواصل وأوقات البرامج، الأمر الذى لا يعود بالخير على إسلامنا وبلادنا، بل تنتج عنه بلبلة لأفكار الناس، وتكدير لصفو العلاقات بين أبناء الشعب الواحد، ناهيك عن فتح باب للمتربصين بوحدة الشعوب ولُحمتهم الوطنية.
والعجيب انشغال الناس كل عام بهذا الأمر أكثر من انشغالهم بفواجع تمر بها الأمة؛ حيث لا تأتى مناسبة احتفال بالعام الجديد غير مصحوبة بما هو أكثر إلحاحًا وحاجة إلى الانشغال بأمره، وتكثيف الجهود سعيًا لحله، وكنت أحسب أن هذا العام سينشغل الجميع بالبحث عن حلول لمشاهد الدمار والخراب فى كثير من بلاد العالم الإسلامى من غير تفريق بين صغير وكبير، ورجل وامرأة، ومحارب ومسالم، وكنت أظن أن الأسئلة ستلاحقنا عن مدى مشروعية التنكيل بالعزل ودفنهم تحت الأنقاض، وما واجبنا نحوهم، إلا أن صوت حكم تهنئة شركاء الوطن بأعيادهم ظل أعلى من صوت الصواريخ والقذائف والبراميل المتفجرة التى تنهال على رؤوس البشر!
ويستدل هؤلاء المتنطعون من المتطفلين على موائد العلوم الشرعية الذين ابتلينا بهم فى زماننا على تحريم تهنئة شركاء الوطن بأعيادهم ببعض النصوص التى اجتزأوها من سياقها، زاعمين أن فى تهنئتهم مخالفة لكتاب الله، وإقرارًا بما هم عليه من غير الإسلام، ومن هذه النصوص قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»، ولو تأمل هؤلاء الآيات التى تسبق هذه الآية لعلموا أنها لا علاقة لها بالموضوع الذى نحن بصدده، فهذه الآية جاءت فى سياق النهى عن ترك تعاليم كتابنا الكريم، وأقوال علمائنا الأجلاء، والأخذ بأحكام الكتب المنزلة على غيرنا من أهل الكتاب، أو اتباع أقوال علمائهم، ولا شك أن هذا لا يمكن أن يقول به مسلم مؤمن بدينه، ويكفى المتجردين الراغبين فى استجلاء الحق دون هوى أو عصبية مراجعة الآيات التى تسبق هذه الآية «من 47 - 50 من سورة المائدة»؛ حيث تنص هذه الآيات على احتكام كل أمة إلى كتابها؛ فيحتكم أهل الإنجيل لإنجيلهم، وأهل القرآن لقرآنهم، فإن احتكموا إلينا اختيارًا حكَّمنا بينهم كتابنا لا كتابهم، ولا يجوز لنا أن نحتكم إلى كتابهم، كما لا يجوز لنا إكراههم على الاحتكام لكتابنا إن أرادوا الاحتكام إلى كتابهم، وهذا حق لا جدال فيه، ولا علاقة للأمر بتهنئتهم بأعيادهم.
ويستدل هؤلاء المتنطعون أيضًا بقول الله تعالى: «إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»، ولو نظر هؤلاء نظرة فهم وتدبر فى الآية السابقة التى تدل دلالة واضحة على عكس ما ذهبوا إليه لاكتمل لهم فهم المراد فهمًا صحيحًا؛ حيث يقول تعالى: «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»، ومن ثم فالنهى عن البر خاص بمن يناصبنا العداء ويقاتلنا سعيًا لاحتلال بلادنا وإخراجنا من أرضنا، وشركاء نسيجنا المجتمعى ليسوا من هؤلاء، بل إنهم ممن لم نُنه عن برهم والعدل فيهم بنص كتاب الله؛ حيث إنهم لا يقاتلوننا ولا يسعون لإخراجنا من أرضنا، فكيف تكون الآية دالة على ما يزعمه هؤلاء من تحريم تهنئتهم بأعيادهم؟!، أليس من البر إدخال السرور على قلوبهم بما يبين أننا لا نحمل لهم ضغينة، ولا نرجو لهم شرًا، وهو ما يستشفونه من تهنئتهم بأعيادهم؟!، ألم نؤمر فى كتاب ربنا وسنة نبينا - وهو مما انعقد عليه إجماع الأمة - بإقرارهم على ما يعتقدونه من ديانات تخالف دين الإسلام متى سالمونا ولم يقاتلونا وينصروا علينا عدونا؟!، ألم يأمرنا رسولنا الكريم بالامتناع عن إيذائهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «من آذى ذميًا فقد آذانى»؟!، ألم يوصنا رسولنا نحن أهل مصر خيرًا بأقباطنا فى جملة من الأحاديث التى يحفظها كثير من الناس؟!، فهل يكون إنفاذ وصايا رسولنا الأكرم بإيلامهم بالحديث عن تحريم تهنئتهم فى أيام أعيادهم؟!
إن قواعد شرعنا الحنيف تقضى بتبنى ما يجمع الناس ولا يفرقهم، ويعزز وحدتهم، ويقوى نسيجهم، ليقف الجميع صفًا واحدًا من أجل الدفاع عن وطنهم، ودفع عجلة تنميته، فإن هُدد الوطن فى أمنه وحدوده تسابق الجنود من المسلمين والمسيحيين لدحر عدوهم ورده خائبًا، ونحن لا نتحدث هنا عما ينبغى أن يكون، بل حدث هذا مرارًا وتكرارًا، وحروب الكرامة التى وقعت على أرض سيناء وغيرها خير دليل على ذلك؛ فقد اختلطت فيها دماء المسيحيين والمسلمين، ولم تمنع مسيحية المسيحيين من دخولهم الجامع الأزهر وخروجهم مع علمائه هاتفين باسم الوطنية، ولم يمنع إسلام العارفين بديننا الإسلامى حق المعرفة من تأسيس «بيت العائلة المصرية»، الذى يتناوب على رئاسته شيخ الأزهر وبابا الكنيسة فى قلب مشيخة الأزهر، وهى تجربة فريدة تغبطنا عليها كثير من دول العالم، وتفكر بجدية فى نقل التجربة إلى بلادها، ولم يفرط شيخ الأزهر فى شىء من ثوابت ديننا عندما يذهب مع معاونيه لتهنئة البابا ورجال الكنيسة فى المناسبات المختلفة، ولذا كان من الأولى لهؤلاء الذين يفتون الناس بغير علم إما الاقتداء بأئمتهم، وفى مقدمتهم شيخ الأزهر المعتز بدينه، والمتمسك بثوابته وتعاليمه، دون نظر إلى رضا مخلوق أو سخطه، فهو يعلم علم اليقين أنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، وإما ترك الأمر دون الخوض فيه بما يلبس على الناس، خاصة أنه لم يطلب منهم أحد ولن يسألهم عن عدم تهنئتهم بأعياد لا يرون التهنئة بها متوافقة مع شريعة الإسلام حسب زعمهم.