26 يناير 1952 ألسنة اللهب تمتد.. النيران تلتهم قلب العاصمة.. النحاس باشا يعلن حظر التجوال إنقاذًا للموقف.. فؤاد باشا سراج الدين وزير داخليته يفقد السيطرة.. الملك فاروق يحاول إخراج زوجته وطفله الصغير ذو الأربعين يومًا إلى قصر القبة.. عشرات المحلات ودور السينما والمكاتب والشركات تبتعلها النيران.. القاهرة تحترق وأصابع الاتهام تشير إلى تورط الملك دون أدلة دامغة.. وفى الوقت الذى سعى فيه الملك إلى إخراج أسرته الصغيرة إلى مكان آمن بعيدًا عن شوارع القاهرة المحترقة، كانت فتاة لم يتخط عمرها الثانية والعشرين تخرج مجبرة إلى تلك الشوارع بعد خلاف شب بينها وبين رب الأسرة التى آوت إليها بعد اختفاء والديها، لأنها قررت العمل بالفن لتواجه بذلك مجتمعًا يحمل كثيرًا من التحفظات على عمل المرأة بشكل عام، وأكثر رفضًا وعداءً للفن بشكل خاص، وكانت أول مواجهة مع الأهل، لم تثنها صفعة قوية على وجهها بل زادتها إصرارًا، فخرجت ثريا يوسف عطا الله إلى شوارع القاهرة المحترقة، ليصبح يوم حريق القاهرة يومًا فارقًا فى حياتها وبداية مسار جديد لها، وللعاصمة المحترقة، فكان المسمار الأخير فى نعش مثلث الحكم فى مصر -الملك والوفد والإنجليز- فبعد شهور قليلة قامت ثورة يوليو وعزل الملك.
يونيو 1961 ثريا يوسف داخل أحد محلات الصاغة بالحسين تنتقى دبلتين، وبعد أن تستقر على ما تريد تطلب من الصائغ أن يكتب على إحداهما 1/7/1961 لويس جريس، والثانية 1/7/1961 ثريا يوسف عطا الله، فيسألها الصحفى الشاب..
- مين ثريا يوسف عطا الله؟
- أنا
- أنتِ مش اسمك سناء جميل!!
- لا.. زكى طليمات هو اللى سمانى سناء جميل، إنما أنا أسمى الحقيقى ثريا يوسف عطا الله.
- لكن الأمور مش بالبساطة دى يا سناء جوازنا محتاج إجراءات كتير وترتيبات، مانلحقش نتجوز فى الميعاد اللى حددتيه ده أبدًا.
-أنت لما قلت لى أنك عايش لوحدك، وأنا عايشة لوحدى ما تيجى نعيش مع بعض، كنت تقصد بكلامك إننا نعيش مع بعض الزواج ولا شىء تانى؟
وكان على الكاتب الصحفى الكبير لويس جريس أن يواجه عاصفة كانت تلوح بوادرها بينهما، فأكد على حسن نيته، وأنه كان يقصد الزواج طبعًا.
أما الترتيبات التى كان يتحدث عنها الصحفى الشاب وقتها لويس جريس هى إجراءات إشهار إسلامه ليتمكن من الزواج بسناء لأنه كان يظنها مسلمة، وهو ما نفته له يومها مؤكدة أنها مسيحية أرثوذوكسية مثله، وتم الزواج فى الموعد الذى حددته ثريا –سناء جميل- زواج امتد على مدار أربعين عامًا من المودة والحب لم يعكر صفوه تحذيرات بعض أصدقاء لويس مغبة الزواج من نجمة مشهورة قالت عن زوجها الذى وهبته حياتها يومًا لويس رجل لا يطلب شيئًا، لذلك مهما أعطيته أشعر أنى لم أعطه ما يستحق.
على مدار عشر سنوات تقريبًا قدمت خلالها "ثريا" الكثير من الأعمال الفنية غير أن النجومية والشهرة لم يطرقا باب شقتها الصغيرة إلا عام 1960، فبعد أن تركت بيت الأسرة عاشت لفترة فى بيت للمغتربات، وساعدها زكى طليمات فى الحصول على إذن للتأخير لظروف عملها فى المسرح، ثم قررت استئجار شقة فى أرض شريف قالت عنها سناء جميل فى حوار تليفزيونى أنها كثيرا ما تمر هناك بعد أن أصبحت نجمة لتستعيد ذكرياتها، وتشعر بحنين كبير إليها، إلى قطع أثاثها المتناثرة التى اشترتها من مزاد، ونفدت نقودها قبل أن تتمكن من شراء مرتبة، فوضعت ملابسها على مُلة السرير لتنام عليها، فتقول: ملابسى التى نمت عليها بدل من المرتبة صنعت منى سناء جميل، فالإنسان أحيانًا كثيرة يمر بالمحن غير مدرك أن تلك المحن تصنع تاريخه وتشكل مستقبله.
بعد أن قدمت واحدًا من أهم أدوارها السينمائية "نفيسة" فى فيلم بداية ونهاية، عرفت النجومية طريقها إلى سناء جميل، تلك الشخصية التى قال عنها نجيب محفوظ إنها تجسيد واقعى لعواقب السلوك المشين فى الأسرة المصرية النمطية، وبالرغم من انتقاد البعض لنهاية نفيسة المأساوية متهمين نجيب بالقسوة إلا أن أديب نوبل رأى أن المجتمع المصرى أمامه سنوات طويلة حتى يتقبل نهاية مختلفة للفتاة المكللة بالعار غير الموت، صعوبة شخصية نفيسة تمثلت فى تناقض سلوكها مع ما تحمله من فطرة نقية وقلب طيب تطحنه ظروف مادية صعبة، جسدت سناء جميل الدور بحرفية شديدة، وأداء نالت عنه الجائزة الثانية لأفضل ممثلة من مهرجان موسكو السينمائى الدولى.
هناك حكمة تقول "الإناء الفارغ أعلى صوتًا من الإناء الممتلئ". فالحياة ليست عادلة بما يكفى لتمنح لمن يستحق كل ما يستحق، فكثيرون نالوا أكثر مما استحقوا وأكثر لم ينالوا إلا أقل جدًا مما يستحقون بالرغم من أنهم لم يكونوا أكثر من أوانٍ تفيض بالموهبة والحماس وحب الفن والإيمان المطلق به.
موهبة ثريا يوسف عطا الله كانت من الطبيعى أن تجعل منها واحدة من أهم نجوم الصف الأول لو كان الأمر مرتبطًا فقط بحجم الموهبة.
ثريا الشابة الصعيدية من مواليد مركز ملوى بمحافظة المنيا سنة 1930، لم تصنف يومًا كنجمة صف أول، ولكنها اشتهرت كغول تمثيل، يخشى نجوم كبار أحيانًا الوقوف أمامها، تستطيع أن تتلون فى سلاسة بالدور الذى تجسده فتنتقل بين شخصيتين متناقضتين دون أن يشك المشاهد لحظة فى مصداقية أى شخصية منهما.
برغم ما مثلته فضة المعداوى من صعود نفوذ وسطوة أصحاب الثروة بعد الانفتاح الاقتصادى فى عهد السادات، وسطوة طبقة الأثرياء الجدد، من الطبيعى أن تكره المعلمة فضة، وتنحاز إلى صاحب الحق السفير السابق د.مفيد أبو الغار صاحب الفيلا المتنازع عليها، لكن المعلمة سناء جميل تبهرنى، فأغض الطرف عن تجاوزاتها وما تمثله من قيم معوجة، واستمتع بأدائها وأتعجب طويلاً من قدرتها على الاختلاف حد التناقض فكلما شاهدت فضة المعداوى تقبض بحرفنة على الشيشة، وتحكم ربط الشال على رأسها وتنتقى عباياتها التى حرصت سناء جميل على تفصيلها بنفسها فقد كانت إحدى مهاراتها إتقان أعمال الخياطة بعد أن لجأت للبحث عن عمل إضافى تسد به العجز بين ما تتقاضاه من أجر نظير العمل فى المسرح، ونفقاتها الشهرية فعملت فى تطريز الفساتين لأحد المحلات الشهيرة فى بداية الخمسينيات.
أتساءل كيف تكون فضة المعداوى تاجرة السمك فى مسلسل "الراية البيضا" هى نفسها لطيفة هانم سليلة الحسب والنسب فى فيلم "سواق الهانم" من قمة الأرستقراطية إلى قاع السوقية، تنتقل بينها سناء جميل دون أن تفقد قدرتها الهائلة على إقناع المشاهد وإبهاره فى الحالتين.
-آلو.. أحمد عايزة أمثل معاك قبل ما أموت.
كانت أول وآخر مرة تطلب فيها سناء جميل من أحد العمل معه، كانت تحب أحمد زكى وتريد أن يضم مشوارها الفنى عمل يجمع بينهما، فأرسل لها أحمد "سواق الهانم" إنتاج 1993، وتشاء الأقدار أن يكون آخر دور تلعبه سناء جميل قبل وفاتها أمام أحمد زكى أيضًا فى فيلم "اضحك الصورة تطلع حلوة" إنتاج 1998، لتنهى مشوارها الفنى بدور ينبض بالإنسانية وأداء لا يجود به الزمان إلا قليلا على مبدعى الفن، والناسك فى محرابه، ويودعها النجم الأسمر فى مشهد النهاية بالجملة الشهيرة لسيد المصوراتى "أهم حاجة الضحكة الحلوة"، فتجلجل سناء جميل بضحكة من القلب تُنهى بها مسيرة فنية امتدت على مدار أكثر من خمسين عامًا.
وفى 22 ديسمبر 2002 مشهد الوداع.. جثمان سناء جميل يخرج من الكنيسة البطرسية بالعباسية بعد انتظار دام ثلاثة أيام، كانت آخر محاولة من الزوج لإسعاد زوجته حتى بعد وفاتها، حاول أن يحقق أملاً لطالما حلمت بتحقيقه مقابلة أسرتها، أمل كان يصعب منطقيًا تحقيقه بعد كل تلك السنوات، ولكن من قال إن الحب يحكمه منطق، كانت تحلم أن تجتمع بتوأمها، فأبى لويس أن تُوارى الثرى دون محاولة أخيرة لعل أحد من أسرتها يظهر، فنشر النعى فى كل الصحف وانتظر، ولكن دون جدوى.. فرحلت سناء وبقيت ضحكتها تجلجل فى الصورة اللى طلعت حلوة.