بعد أن حزمت ٢٠١٧ حقائبها، واستعدت للرحيل، وأبت إلّا أن تغادرنا، رغم توسلات البعض ورجاءات البعض الآخر بالبقاء، ما هي إلا سويعات تفصلنا عن ٢٠١٨، يعتصرني الألم ويكاد يفتك بي الحزن على فراق ٢٠١٧، وتذكرت عندما سافرت إلى فرنسا نهاية عام ٢٠٠٦ لدراسة الدكتوراه، وخرجت أنا والزميل العزيز طارق زغلول إلى أشهر ميادين مدينة ليون بل فرنسا كلها، ميدان بلكور، ليلة رأس السنة، لاستكشاف طرق احتفال الفرنسيين بالعام الجديد ٢٠٠٧ واستطلاع مسلكهم والوقوف على عاداتهم وتقاليدهم في مثل تلك مناسبات، وكيف أنهم يهنئون كل من يقابلونه، عرفوه أم لا، بجملة سنة سعيدة وصحة جيدة Bonne année et bonne santé ولربما بلغ الفرح والسرور والحماس ببعضهن مبلغه، فتطبع قبلتين على وجنتيّك، دون سابق معرفة، لتقف مذهولا غير مُصدق بل غير مُبالي بلفحات البرد القارص وسط الميدان الفسيح، واضعا يدك على وجهك، متحسسا آثار تلك العفوية، عازما على ألّا يقترب الماء من وجهك لألّا يزيل آثار البرفان الفوّاح، الكل كان في تلك الليلة مسرور مبتهج، لكن ما لفت نظرنا، واسترعى انتباهنا هو وجود مظاهرة، قليلة العدد، لكنها عظيمة المعنى والمغزى، مظاهرة ضد رحيل ٢٠٠٦ وضد قدوم ٢٠٠٧، اعترضوا على ٢٠٠٧ حتى قبل التعرف عليها، والحكم على أجندتها وبرنامجها...
أجدني أنحى ذات المنحى، وأعيش فلسفة المظاهرة الفرنسية في نهاية ٢٠٠٦، بل وأطلب العون والمدد، يجب أن نصطف جميعا إن لم يكن لمنع قدوم ٢٠١٨، فلتحية ٢٠١٧ ولشكرها على ما قدمته لنا طيلة فترة وجودها معنا، ولعل دعوتي جد محمودة، ومسلكي جد مبرر، ولهما من الحجج ما يؤيدهما، ومن الأسانيد ما يعضدهما... ولنلقي نظرة أخيرة على ٢٠١٧ ولنقرأ كشف حسابها...
لن نتوقف عند سنن الكون، وقوانين الطبيعة، من ميلاد أو وفاة شخص مهما بلغ تأثيره على الإنسانية، أو عند ظاهرة كونية لم يكن بيد ٢٠١٧ فعل شيء، ولكن عملا بالقول المأثور، أن الحياة لن تتوقف عند وفاة شخص، وأن الأشخاص إلى زوال، والأوطان إلى بقاء.
وإذ بنا نقف على أعتاب السنة الميلادية الجديدة ٢٠١٨، وقبل أن نحتفي ونحتفل بها، نود أن نودع سنة ٢٠١٧ بقراءة في كشف حسابها، والتعلم منه. كانت ٢٠١٧ مليئة حافلة بالأحداث الجسام، والتطورات النوعية، ما يستوجب منا الوقوف عندها سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو المصري.
يطيب لنا أن نتذكر معا أهم تلك الأحداث باقتضاب، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. ولنبتدأ بكشف حساب الساحة الدولية، يعقبه كشف حساب الوضع الإقليمي، ثم نعرج في النهاية على الأحداث المصرية.
زخرت الساحة الدولية واكتظّت بالأحداث المثيرة والتغيرات الفاعلة والتطورات المتلاحقة على مدار ٢٠١٧.
بدأت السنة المنصرمة شهرها الأول بتولي دونالد ترامب، الذي أثارت تصريحاته وتعهداته ووعوده إبان الانتخابات الأمريكية جدلا واسعا ولم تكن الأغلبية تتوقع فوزه، رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، مع توليه مهام منصبه أيقن الرئيس الأمريكي أن ثمة شسوع فرق بين النظري والعملي، بين القول والفعل، بين الوعود الانتخابية وتطبيقها، لم ينفذ وعده بطرد ملايين الأجانب من أمريكا، لم يقطع علاقته مع روسيا، العدو التقليدي، بل دخل معها في علاقة دافئة، قوامها تغليب الصوالح الوطنية لبلاده، انخفضت حدة صوته، بمكنتنا القول أنه قد وعى أبجديات السياسة التي لم يترب عليها، ولَم يشُب على تعاليمها ولم تطأ قدماه قط مدارسها...
توسط العام المنصرف انتخاب فرانسوا فييون ممثل اليمين في الانتخابات الفرنسية، وأثبت الفرنسيون أنه لا مكان لليمين المتطرف في قصر الإليزيه، وأنه رغم الاكتواء بنار الإرهاب الغادر، لن يكون هناك معالجة للإرهاب بالتطرف، ولن تتشرنق فرنسا وتنغلق على نفسها، ولن يكون العصف بالحقوق والحريات ثمن مكافحة الإرهاب... درس علنا نعيه...
على المستوى الإقليمي، لم تبخل علينا ٢٠١٧ بفيض كرمها، إذ زادتنا من الشعر بيتا، فحدثت الانفراجة الكبرى في العلاقات المصرية التركية، وزاد معدل التبادل التجاري بين القطبين المحوريين الإقليميين وتعززت الأواصر السياسية بينهما، بعدما تعهدت تركيا بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لمصر، الأمر الذي صادف قبولا، ولاقى رواجا في مصر على المستويين الرسمي والشعبي.
على المستوى العربي، فطن العرب جميعا والفاعلون منهم خصوصا، للخطر المحدق والتهديد الحال الذي يحيق بهم بتوطيد علاقاتهم مع الغرب خاصة الولايات المتحدة على حساب الأشقاء، والارتماء في أحضانه، ولكارثية الالتحاف بالعباءة الغربية، فكانت أن توحدت كلمتهم، واجتمع صفهم، واصطفّ رأيهم، وتوحدّ قرارهم، فأضحوا قوة يخشاها الجميع.
بلغ بهم الأمر مبلغه، بأن يتوجوا جهودهم ويحققوا حلم شعوبهم وبدأوا بالخطوات الفاعلة لتحويل جامعة الدول العربية إلى الاتحاد العربي، على غرار الاتحاد الأوروبي، والتفكير جديا في العملة الموحدة والتي سيطلق عليها عربي.
عطفا على ما سلف، كانت السمة الغالبة للعام ٢٠١٧ هو عودة العلاقات المصرية العربية لسابق عهدها سيما علاقة مصر بالشقيقة السعودية، وغلق الطريق أمام من يريد بأمتنا العربية الفرقة والتشرذم.
تستطرد ٢٠١٧ في دهشتنا، وحدة صف العرب، كانت النواة التي أجبرت إسرائيل على الدخول في مفاوضات الحل النهائي في الربع الأول من ٢٠١٨، وارتبط التطبيع بالانتهاء من تلك المفاوضات وإقرار حل الدولتين.
كان للُحمة الصف العربي والجهود المضنية للدبلوماسية العربية الفضل في جلاء القوات الروسية عن سوريا، وكان أيضا أن تم القضاء على التنظيمات الإرهابية هناك، وكان أن وضعت المعارضة المسلحة سلاحها جانبا، واحتكم الجميع الي صناديق الاقتراع مطلع مارس العام المقبل..
على المستوى المصري، كان أهم حدث على الإطلاق هو إعلان السيسي عدم ترشحه لفترة رئاسة ثانية، داعيا الكوادر المدنية وكل من يجد في نفسه القدرة على العطاء والبذل للتقدم لهذا المنصب الرفيع، مؤكدا على حيدة الانتخابات القادمة وحيادية أجهزة الدولة تجاهها.
يتقاسم الأهمية مع هذا الحدث، غلق ملف جزيرتي تيران وصنافير، بعد الاستفتاء الشعبي الذي دعا إليه السيسي، إيمانا منه بأن الشعب هو مصدر السلطات، وأنه لا سلطة تعلو سلطة الشعب، وارتضت الأطراف بل واحترمت خيار الشعب المصري.
تتقاطر الأفراح وتتزاحم في تلك السنة الاستثنائية، فمن جانبها لم تألو الحكومة جهدا ولم تدخر وسعا حتى تم الإفراج عن كل سجين رأي، ومعتقل سياسي، واعتذار الدولة عن ذلك، وتفهم المُفرج عنهم لاستثنائية الظروف، وتقبلهم للاعتذار الرسمي، واندماجهم في المجتمع والمساهمة في تقدم وازدهار مصرنا الحبيبة.
أبهرنا الإعلام المصري بالتمسك بميثاق الشرف الإعلامي، وقامت المؤسسات الإعلامية بإقصاء كل متجاوز عابث بهذا الميثاق، نرى تطبيقا حرفيا ونلحظ نسخ للمسلك في المؤسسات الصحفية.
إنها سنة فريدة من نوعها، لاحظنا صرامة في الرقابة على أداء الجهاز الإداري للدولة، لمسنا ضبطا في الأسعار سيما فيما يتعلق بالمنتجات الضرورية والأساسية، لمسنا تحسنا طفيفا في المستوى المعيشي لمحدودي ومنعدمي الدخل.
نلمس إرادة في بناء دولة القانون، أُتخذت خطوات أولية، لا أقول بكفايتها، ولكن من الممكن البناء عليها.
حقّ لي أن أقول هذا عامي فقف يا زماني، وحقّ لي أن أعترض على مجيء ٢٠١٨.
لم أكن لأفرغ من كتابة هذه السطور إلا وطالعتني رسائل الأهل والأصدقاء بالتهنئة ببداية السنة الجديدة، ويا للعجب إنها ٢٠١٧ وليست ٢٠١٨، أغلقت قلمي، لألّا يجف حبره، كففت عن الكتابة، وقلت لنفسي لعله خير، علها أمنيات، عساها أن تتحقق ولعله كشف حساب مُسبق ل٢٠١٧.
ولعله فأل خير، إضافة إلى إيجابية كشف حساب ٢٠١٧ والرضا النسبي عنه، اكتشفت أنه مازال بيدنا عام كامل، لم يُنعت بعد بالماضي ولم يقدم لنا بعد كشف حساب، فهل لنا من اغتنامه؟ وهل له بمد يد العون لنا؟ وهل سيحق لنا أن نعترض على مجيء ٢٠١٨ نهاية ٢٠١٧؟
مع قارصية برد فرنسا، وانخفاض الحرارة لما دون الصفر، أوقدت دفايات المنزل ودخلت غرفة نومي والتحفت، وأسلمت رأسي لوسادة سريري، فعانقتها...
كل عام ومصرنا الحبيبة بخير، كل عام وحضراتكم بخير وصحة وسعادة وهناء. متمنيا على الله، راجيا منه، أن تكون ٢٠١٧ أفضل على الجميع من ٢٠١٦ وأن يحقق الجميع فيها أحلامه وأمانيه.