مشهد قصير جدا، لكنه يبدو فى جوهره حدثا جللا!، عبر تفاصيله المرعبة فى تاريخ أمة ووطن.. يجلس الكاتب الصحفى المخضرم "طلال سلمان" على كرسى رئاسة تحرير "السفير" لآخر مرة بلباس شتوى أنيق، يضفى عليه نوعا من المهابة والوقار، رغم ما يرتسم على وجهه من حزن يعكس اعتصار الألم الدفين، وعلى يساره فوق سطح مكتبه الأبنوس الذى تعلوه قطعة من رخام قديم، تبدو كومة صغيرة من الكتب التى تراصت فى غير انتظام، تتقدمها "يافطة" خشبية مكتوب عليها (الذى علم بالقلم) تجاورها كرة زجاجية شفافة تشير إلى خارطة الكرة الأرضية توقفت عن الدوران لتوها، وعلى اليمين "أبجوزة" مشعة ببياض نور خفيف يشير إلى عراقة المكان، بينما يبدو بجوارها فى انحناءة ملفتة ماتبقى من أقلام جف حبرها معلنة التوقف عن الـ"كتابة على جدار الصحافة".
فى خلفية المشهد الرمزى ترقد فى ثبات لوحة تشكيلية معجزة لبيروت القديمة نابضة بالحركة والحيوية، يكسوها فيض من تحد لكل جبروت لحظات الوداع فى عناق أسطورى للوحات كاريكاتورية من ذاكرة إبداع "ناجى العلى" المجاورة لها، وكأنهم يأبون مغادرة الذاكرة الطارئة بتحرض من "حنظلة"، لتظل أيام فتوة الصحيفة الأكثر شهرة وبراعة وحرفية فى طابور الصحافة العربية المحترمة تسكن ذات المكان، مطبقة براويزيها المتآكلة بفعل الأيام الصدئة على لحظة نورانية مختلسة من عمر الزمان الذى استأنس بالمكان ذات يوم هنا.
"سلمان" الذى يشبه مالك الحزين - داخل الكادر الأخير- يمسك بقلمه فى ثبات نادر ليضع خط النهاية بإمضائه على ما تبقى من أوراق لم تخضع بعد حروفها للكيبورد، ولن تلوكها ماكينات الطباعة - كالعادة - هذه المرة، ثم يغلق القلم لآخر مرة، ويهم الجسد المتهالك وسط الجدران الباردة واقفا ليغلق آخر نقطة ضوء فى المكان، هو إعلان نهائى إذن بإغلاق الستار، وحلول الظلام على أكبر وأهم ورشة صحفية كانت "صوت الذين لا صوت لهم" يوم أن كانت خلية نحل لا يكف طنينها العروبى، ولا ينتهى شهد عسلها اللبنانى فى إنتاج حروف وجمل تصنع أخبارا وتقارير وأحاديث وتحليلات ومقالات تبنى وتكتب مجد ورفعة وطن اسمه "لبنان"، بعدما ظلت قابضة على جمر المصداقية فى أوقات الحرب والسلم، فمهما كانت سطور الزمن ملطخة بلون الدم كانت "السفير" مشعل نور يصنع خيوط الأمل معلنا تحدى الموت وجبروت اللحظات الفاصلة فى عمر بيروت "ست الدنيا" التى تعلو رأس "لبنان الأخضر الحلو" كما جاء بحنجرة أساطين الطرب، وعلى رأسهم جارة القمر "فيروز" فى عليائها على خشبات مسارح الدنيا، بينما شجر الأرز يطوق عنقها فى شمم وخيلاء يلمع بالمجد.
يمد مؤسس ورئيس تحرير "السفير" يده فى ليطوى 43 عاما إلا قليل من صحيفته وسط غبار التكنولوجيا الزاحفة فى اجتراء مقيت، يلتقط كوفيته فى حنو بالغ بلونها الرمادى القاتم الذى يشير فى دلالة واضحة لتلك اللحظة بقسوتها المفرطة، ولعلها سطرت ملامح علامات الزمن الصعب، بعد أن تركت أثرا يبدو جليا على وجه الصحفى القدير وهو خارج لتوه من باب مكتبه، تاركا الصمت الرمادى الرهيب يخيم على كافة أرجاء المكان، عدا بعض ما اجترأ على التحدى من أزيز النور الذى يلفظ أنفاسه الأخيرة قادما من"الأباجورة" التى تصارع الموت دون جدوى فى احتضار مهيب، بينما يأتى صوت المغنى:
أهو ده اللى صار وآدى اللى كان
ملكش حق تلوم على
تتوقف الشاشة عن الحركة، وتثبت على شعار السفير الشهير"حمامة صفراء" مكتوب أسفلها "على الطريق"، وهى عبارة محيرة وتبدو ذات دلالات مربكة، فرغم أنها كانت عنوانا لإحدى كتبه الصادرة عام 2009، لاندرى هنا إذا ما كان "سلمان" يقصد مواصلة المشوار على شبكة الإنترنت، بعدما أحكمت خيوط شبكتها العنكبوتية على الفضاء الورقى وأصابت صحيفته فى مقتل، أم أنها إشارة لتفجر الأسئلة الصعبة حول مصير الصحافة الورقية الذى يبدو إلى زوال، فى ظل حالة التشظى حول ضياع الهوية والمهنية التى تعترى كل مؤسساتنا العربية ومنها القومية المصرية على وجه الخصوص، والتى تشهد صراعا شرسا حاليا بين مختلف الأجيال على الكرسى الوثير؟، دون إدراك حقيقى من جانب المتصارعين بحجم الخطر الذى يرشحهم للزوال أكثر من البقاء، جراء تراجع الكفاءة والمهنية التى يمكن أن تقوى على انتشال صاحبة الجلالة من براثن وحل التردى الذى لحق بها، يوم أن غاب معيار المهنية فى الاختيار، واعتلى الكراسى من يباهون بجهلهم الواعى على الصفحات الأسبوعية واليومية، بغثاء سيل أقلام أدت بالضرورة إلى فقدان المصداقية وتراجع أرقام التوزيع.
هل يدرك هؤلاء المتصارعين، ونحن فى هذه المرحلة التى نودّع فيها صحيفة عريقة شكّلت مركز ثقل ثقافى لبنانى وعربي، بأننا نشهد انسداد أفق مؤسسات إعلامية أخرى مكتوبة ومسموعة ومرئية؟، وهل تساءل أى منهم إذا كنا بالفعل نشهد انسدادا فى مصادر التمويل والدخل، أو فى الأداء المهنى بذاته؟. ظنى إنهم لا يعرفون ولا يملكون حتى شجاعة الاعتراف بأننا فى نفق مظلم، أو على الأقل نحن فى نقطة ما منه، رغم أن كثيرين من شيوخ المهنة على قناعة مطلقة بأن ما تعيشه الصحافة ـ المكتوبة تحديداً ـ ليس مجرد أزمة عميقة، إنما هى تعيش موتها، وربما كان سر نجاح هذا الجيل السابق ـ أو بالأحرى الأجيال السابقة ـ فى أداء المهمة بنجاح، أنه تم التأسيس لتراث مهنى غنى، من دون أن تكون الصورة وردية كما هو حالنا الآن.
أتفق تماما مع رؤية الصحفى اللبنانى المرجعى "جهاد الزين" فى تحليله لأسباب تراجع مؤسساتنا الصحفية العربية والتى تنسحب بالطبع على مؤسساتنا القومية المصرية، وأولها العجز الواضح عن الأخذ بأسباب العصر التكنوجى، فنحن كما يشير"الزين" : لم نطلق مؤسسة عصرية تحاكى أدوات العصر، وهو عصر التسارع التكنولوجى ضمنه تسارع وسائل الاتصال والتواصل، وفى هذا الإطار يمكننا التنبه إلى غياب الصفحات العلمية والتكنولوجية المتخصصة من وسائل إعلامنا"، مضيفا "لم تخرج إلى اليوم تجربة واحدة تنتمى إلى العصر الجديد.
أصاب الرجل فعلا، ففى حالتنا المصرية لم تستخدم المؤسسات الصحفية العتيقة "الإنترنت" كحائط تُنقل عليه تجارب الإعلام الكلاسيكى بحرفيتها، من حيث الشكل والتمويل والمضمون، مع تراجع كبير فى الأداء المهنى، حتى صار الإعلام فى ذهن نسبة من المتلقين عبارة عن مجموعات من البرامج التى تنتمى إلى عالم الصحافة الصفراء والإثارة الرخيصة، والمعلومات المركبة، ومن ثم ضاعت الهوية والمهنية والمصداقية التى كانت تاجا على رأس صحافتنا القومية المصرية على الأقل. إنها مشكلة جيل حالى على رأس هذه المؤسسات عاجز تماما عن إحداث تغيير حقيقى، فى ظل تغييب عمدى لكفاءات وكوادر حقيقية تملك أدوات عصر التكنولوجيا، لكنها دوما ما تصطدم بأسوار الجهل والحقد من جانب من يطالبون بالبقاء فى مناصبهم بدعوى الحفاظ على استقرار المؤسسة التى تتهاوى بالضرورة على صخرة جهلهم وعدم إدراكهم للواقع المر.
ترى: هل الصحف الورقية تعانى أزمة وجودية .. لكنها لن تموت فعلا، وإنها ستظل واجهة الأوطان،على حد زعم الواهمين؟.. هذا ما ستكشف عنه الأيام القليلة القادمة!