هو المصرى «الحق» الذى أسس الصورة الذهنية للمصريين فى القلوب والأفئدة، هو خفيف الروح، خفيف الدم، حلو الملامح، ناصع الطلعة، «بلسم» تكاد لا تشعر به، أنيق ولبق وغيور ومتسامح، تقرأ عن وصفه وطبعه وسلوكه فتكاد تشعر بأن أم كلثوم كانت تناجيه وهى تقول: «واثق الخطوة.. يمشى ملكا»، وكأنه يقول إن طباع الملوك ليست قاصرة على أصحاب الدم الأزرق، وإنما هى قرار داخلى يتخذه الواحد، مقررا أن يتحلى بها، فيصير ملكا بين الناس من دون مملكة ولا أسوار، أنت وأنا نتباكى على «مصر الضائعة»، لكننا لا ننتبه إلى أن «مصر» المعشوقة ليست سوى بضعة تفاصيل صغيرة فى لوحة كبيرة، وأن بداية الانهيار الحقيقية لم تكن كما يردد البعض، تزامنا مع «النكسة» ولا حتى «الانفتاح» وإنما مع اختفاء «ابن البلد».
يدعى المدعون معرفتهم به، ويكثر المتنطعون الذين يروجونه أنهم هو، لكن رائد الدراسات الشعبية «أحمد أمين» يفضحهم جميعا فى كتابه الرائع «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية» الذى اعتبره دستور وجدان المصريين والمرجع الأول لفهم الشخصية المصرية ومفرداتها المشتبكة، وقد وصف «أمين» ابن البلد بأمانة يحسد عليها، لم يترك شاردة ولا واردة، دقة متناهية، صورة كاملة، تبدأ من شكل الطربوش ووزنه ولونه وحتى نوع النسيج ولون الحزام وشكل الجبة والقفطان ونوع جلد الحذاء، وشكل خاتم اليد ونوع الحجر الكريم الذى يزينه، كما لم ينس وصف اعتنائه بنظافته الشخصية من حلق الذقن وقص الأظافر ومحبة العطور.
بعد أن يصف «أمين» مظهر «ابن البلد» يستطرد ليصف جوهره وهو الوصف الأهم، إذا يعدد مميزاته الخلقية الجمة فهو الذى يكثر من استعمال كلمات مثل «عن إذنك» و«يكرم من سمع» و«بلا مؤاخذة» و«أكرمك الله» و«يا سيد»، ولا تحسب أن مفردات الاحترام الزائد هذه تستبد بشخصيته فتجعله جامدا يابسا أو «منشى» كما يقول البعض، فهو أيضا بحسب «أمين»: «يكثر من التنكيت، ويستطيع أن يرد على النكتة بمثلها أو بأحسن منها»، وفوق كل هذا فهو إنسان حقيقى لا يميل إلى جرح مشاعر أحد، و«يجتهد أن يرضى محدثه كل الرضا، فلا يجرح إحساسه ولا يخدش عواطفه، ولا يسمعه كلمة قاسية، يتحرَّى أن يجعل آخر الحديث نكتة ختامية، فيمتلئ المكان بالسرور، ويتفرق الجالسون وفى نفوسهم الإعجاب»، هذا هو ابن مصر «ابن البلد» الحقيقى، كالنسمة فى سيره، والعطر فى سحره، والرسل والأنبياء فى أخلاقه، كالملائكة فى أناقته، فهل عرفت أسباب الانهيار؟!