اشتدت شمس الظهيرة فى البلد الخليجى بينما خرج المهندس المصرى من مكتبه إلى ذلك المسجد القريب الذى يحب الصلاة فيه ويحب ريحه وسكينته، وهو يحاول أن يبقى عينيه مفتوحتين فى مواجهة الهواء الساخن الذى يلفح وجهه كما تلفح الفرن المتقدة وجه خبازها وهو يعالجها ببعض العجين أو يحصد منها بعض ما نضج من الخبز. حوقل الرجل وراح يتمتم بحمد الله على كل شىء عندما لمح بطرف عينه شابة تقاوم البكاء وتحاول الاحتماء بجدران المحال المغلقة من قسوة الجو. هم الرجل بالرحيل مبتعدا، فليس فى تلك الغربة أسوأ من ورطة يقع فيها مقيم مع فتاة أو امرأة لا يعرفها ولا يعرف ما وراءها.
ولكن قدمى الرجل تسمرتا ولم يتقدم خطوة إلى الأمام ـ فليست مروءة ولا نخوة أن يمضى فى حال سبيله، وهناك من قد تعينها مساعدة قليلة على تجاوز محنة كبيرة. استدار الرجل يمنة وسار فى تؤدة بضعة أمتار إلى حيث تقف الفتاة وراح يتفحصها برفق ليرى ما بها وهو يقترب منها قليلا، فلم ير ما يريب . ألقى الرجل السلام وسأل الفتاة: ما بك يا أختى؟ هل أستطيع المساعدة؟ كشفت الفتاة عن وجهها الذى بللته الدموع ولم تنطق بشىء. قال الرجل تبدين لى كمصرية. أنا مصرى، فهل أنت مصرية؟!، قالت نعم مصرية وليس لى أحد هنا ألجأ إليه. أخرج الرجل تليفونه المحمول فى لحظة وطلب زوجته الشابة سائلا إياها إذا كانت تحب أن تساعد فتاة مصرية فى حاجة إلى عون فورى، فردت زوجته مرحبة. قال الرجل، إذا سآتى إليك حالا لأصطحبك فى السيارة ونأخذ الفتاة معنا فنضيفها ونرى ما يمكننا مساعدتها به. التفت الرجل إلى الشابة المصرية التى استمعت باهتمام إلى مكالمة الرجل مع زوجته، وطمأنها إلى أنه سيعود خلال وقت قصير برفقة زوجته ليأخذاها إلى بيتهما ثم ليدبر الله خيرا.
انتظرت الشابة فى مكانها لا تبرحه، فليس هناك من مكان أو أحد تقصده. ولم يمض وقت طويل حتى اقتربت منها سيارة يقودها المقيم المصرى وإلى جواره زوجته . خاطبت الزوجة الشابة المصرية مرحبة بها برفق لتنضم إليها فى سيارة الزوج .
هدأت الشابة فى رحاب الزوجين المصريين واستراحت فى غرفة لها، ثم خرجت إلى مضيفيها، فتلقياها مبتسمين مرحبين بها، وسألاها أن تحكى لهما عن مشكلتها - اذا أرادت – ليتمكنا من مساعدتها ولو بالرأى .
قالت الشابة: هذه هى المرة الثانية لى فى هذا البلد. وقد سبق لى أن جئتها منذ عام فمكثت بها قليلا ثم غادرتها بعد أن تحصلت من عملى على مال قليل أعيل به إخوتى. فأبى قد توفى عن أسرتنا فى إحدى القرى، وتركنا أسرة ضعيفة من أم بلا عمل وعدد من الأطفال وأنا أكبرهم . وقد حاولت وأمى فى اتجاهات كثيرة لنكسب قوت يومنا فى قريتنا فباءت جهودنا بالفشل ـ ولاح لنا أمل حين زارتنا دلالة وعرضت على عملا فى مشغل فى هذا البلد، حيث قدمت إلى تذكرة طيران فرحت بها وألف جنيه . فرحنا أنا وأمى كثيرا، وكان راتبى يعادل ضعف ذلك شهريا، حيث عملت فى ذلك المشغل لمدة عام كامل واستحملت ما تعرضت له من مضايقات غريبة من نساء ورجال ومن تحكمات . وعندما ادخرت بعض المال - خلافا لما حولته إلى أمى – قررت العودة إلى بلدى . ولكن ما ادخرته لم يصمد كثيرا أمام طلبات الحياة وظروفها . وبحثت عن تلك الدلالة التى طرقت بابنا يوما، ولكنى لم أعثر لها على أثر . بل عثر على سمسار آخر وعرض على السفر إلى هذا البلد عن طريق بلد ثالث لعدم وجود تأشيرة، ولأن التأشيرة تكلف مالا كثيرا . وقد أخافنى كلامه وأخاف أمى، ولكن حاجتنا إلى العمل والى المال جعلتنى أفكر وأقبل.
وغادرت مصر إلى هذا البلد الثالث. وهناك استقبلنى أناس لا أعرفهم وانتظرت يومين لدى عائلة طيبة، وفى اليوم الثالث جاءت سيارة فقالوا لى أن ألتزم بما يطلب منى ولا أصدر صوتا ووضعونى فى شنطة سيارة سارت بى مسافات فى طرق غير ممهدة، وأنا أرتجف خوفا ثم توقفت . أنزلونى من السيارة وقالوا لى حمد الله على السلامة. لقد عبرتى الحدود والآن تستطيعين أن تصلى إلى المدينة التى تريدينها. وواصلت التنقل حتى وصلت إلى المشغل الذى عملت فيه فيما مضى، حيث قابلتنى صاحبة المشغل ومنحتنى عملا، ولكن بنصف أجر فقط لأنى دخلت البلد هاربة ولست نظامية، واستولت على جواز سفرى. سكتت الشابة المصرية لبرهة ريثما تلتقط أنفاسها، ومضيفاها يرمقانها بعيون تملؤها الدهشة والترقب والتحفظ، كأنهما يشاهدان فيلما من أفلام الأكشن المخيفة العنيفة. عادت الشابة إلى روايتها فقالت: مضت عدة أشهر، ولكنى لم أعد أحتمل المضايقات التى تحوطنى فى ذلك المكان ووحشتنى أمى وإخوتى. اعترضت على ما لا أحب فطردتنى صاحبة المشغل صباح اليوم ورفضت إعادة جواز سفرى إلىّ انتقاما منى.
قال الزوجان المصريان فى نفس واحد: والله أنت بطلة وراجل انك تضحى التضحية دى كلها عشان أمك وإخوتك وأنت شابة وتحافظين على نفسك وترفضين الغلط، ولكن ما كانش - يا بنت الحلال - لازم توصلى بالتضحية لحد كده . ربنا سلم، وأنت معانا واحدة مننا لغاية ما نشوفلك حل وولاد الحلال فى البلد دى بردو كتير .