صديقى معتزّ، لن أعزّيك فى ماما كريمة، فالأمهاتُ لا يُعزَّى فيهنّ، ليس لأن فقدَهن أكبرُ من عزاءات الناس للناس، وليس لأن الحرمانَ منهنّ أهولُ من مواساة الأصدقاء والأهل للفاقدين أمهاتهم، بل لأنهنّ لا يمُتن. الأبناءُ يحملون أسماءَ آبائهم، لهذا يفرح الناسُ بالولد لأنه سيخلّد أسماءهم. ومَن لا يُنجبُ ولدًا تُسمّيه العربُ «أبترَ»، لأن اسمه ونسبه أصبح مبتورًا من كتاب الخلود! حساباتٌ طفولية! فإن كّنا لا نحملُ أسماء أمهاتنا، فلأننا نحمل منهنّ شيئًا أكبر من الاسم الاعتباطى وليد المصادفة، نحن نحملهنّ بكاملهنّ فى تاريخنا وأرواحنا كما حملننا بكاملنا فى أحشائهنّ وفى أعمارهنّ، لهذا لا تموتُ الأمهاتُ.
لكنّه الفقدُ يا عزيزى. الفقدُ الجسدىّ الفيزيقىّ، فقدُ أصواتهنّ فى فضاءات البيوت. فقدُ شكلهن فى بيابى المآقى، فقدُ أكُفّهن الحانيات تربتُ على ظهورنا وقت التعب. فقدُ دعواتهنّ فى لحظات العُسر، فقدُ إشراقة ابتسامهنّ حين نرنو بأبصارنا نحوهنّ، وفقدُ لهفتهنّ حين نغيب. حين شاهدتُ صورة زفاف ماما كريمة مختار على والدك نور الدمرداش، تذكرتُ صورة أمى فى فستان زفافها على أبى، كانت أمهاتُنا جميلات وأنيقات وقتَ كانت مصرُ مصرَ.
حين هاتفتُك قبل يومين، تبعثرت الكلماتُ فوق لسانى كعادتى فى لحظات العزاء والرثاء والمواساة، أنا التى أنفقتُ عمرى فى التفتيش داخل خبيئة اللغة وأسرار الكلمات، أتلعثم حين أبحث عن كلمات مواساة لأحبائى حين يفقدون غاليًا، وهل أغلى من الأمّ؟! قلتَ لى وصوتُكَ يشرق بالدمع: «خلاص يا فاطمة مبقاش فيه ماما كريمة!»، ولم أدرِ ما قلتُ لك وقتها فقد هرب الكلامُ منّى، لكننى أقول لك الآن ما قلتُه لنفسى حين طارت أمى للسماء وتركتنى وحيدة، مثلما أنت الآن وحيدٌ، واسيتُ نفسى بحيلة ماكرة أقترحُها عليك، أقنعتُ نفسى أن فى موت الأمهاتِ شيئًا جميلا، شيئًا حانيًا، أنهنّ لن يمتن مرّة أخرى، أرحمُ ما فى موت الأمهات أنهن لا يمتن مرتين، بل مرّة واحدة؛ يختفى بعدها خوفُنا من موتهنّ. عشتُ عمرى كلّه، منذ طفولتى وحتى عام 2008، مرتعبةً من فكرة موت أمى، ماذا سيكون شكلُ العالم حين تختفى منه أمى؟! رعبٌ دائمٌ أضجّ مرقدى وأتعس صحوى، لم أتخلص من ذاك الهمّ المقيم القاتل إلا مساء يوم 5 سبتمبر 2008، حين ذهبت أمى للسماء وتركتنى ويدى لاتزال معلّقة فى طرف ثوبها، أقنعتُ نفسى يومها أن موتها اليومَ سيكون الضمانة الوحيدة لى بأننى لن أخاف موتَها بعد ذلك أبدًا، وفى هذا بعضُ العزاء.
سأكون صادقة معك وأخبرك أننى اكتشفتُ بعد برهة سخافة الفكرة، لأنها لم تمُت يومها، وفقط، بل صارت تموت كل يوم منذ ذلك التاريخ، وحتى أموتَ أنا.. كلما مررتُ بمشكلة أو بلحظة حزن، شعرتُ بموت أمى، كلما ظلمنى أحدٌ أو قستِ الحياةُ علىّ شعرتُ بموت أمى، أجرى إلى دولاب ملابسى وأُخرجُ شالَ أمى الصوفىَّ وأتدثّر به فأكاد أُحسُّ بذراعيها تحضناننى فأهدأ.
لكن الله كان رحيمًا بى وأرسل لى أمًّا بديلة عوّضتنى عن ماما سهير التى تركتنى فى أشد لحظات احتياجى لها، أنا محظوظةٌ بأمى الجديدة «آنجيل» التى أرسلتها أمى الحقيقية لتقوم مقامَها، لكنك أيضًا محظوظٌ أكثر منّا جميعًا يا معتزّ. لأن ماما كريمة لم تكن أمَّك وحدك يا حبيبى بل أم المصريين جميعًا، والعرب جميعًا، فكأنما حزنك عليها يتشاركه معك ملايين الأبناء وملايين الأشقاء، فحين كانت أمّى لى أنا وشقيقى فقط، وانقسم حزننا عليها على اثنين، كانت والدتك لك ولى ولكل من ينتمون لجيلنا وما تلانا من أجيال، فتوزّع الحزنُ عليها على الجميع، وأنت محظوظ كذلك لأن أمَّكَ خالدةٌ فى أعمالها الرفيعة التى محفورةٌ فى قلوبنا جميعًا. فإن اشتقتَ إلى صوتها يا شقيقى فهو على مرمى ضغط زرٍّ على الميديا، وإن راودك الحنينُ إلى ابتسامتها فهى هناك فى كل شاشة وكل صفحة.
ربما تجد كلامى نظريًّا لا قيمة عملية له، وأجدُه أنا مثلما تجده، كلماتُ العزاء والمواساة دائمًا فقيرةٌ وساذجةٌ مهما ضفّرناها بالفلسفات والنظريات والصور الشعرية، الفقدُ تجربةٌ شخصية لا يشاركنا فيها أحدٌ ولا يقتسم أحزانَنا معنا أحدٌ. لكنها محاولاتُ البحث عن شىء من السلوى وسط ركام الحَزَن، قلبى معك، وفى قلب مصرَ تعيشُ خالدةً أيقونةُ الحنوّ والعذوبة والدفء: كريمة مختار.