يعد التعليم اللبنة التى تُبنى عليها حضارات الأمم، وتنطلق عجلة تنميتها من مكونه الثقافى الهادى للعقول المحصلة لمفرداته، ولا يمكن لأمة تأخر تعليمها أن تلحق بركب الحضارات، فضلًا عن مزاحمتها لاحتلال موقع فى الصدارة. وإصلاح التعليم ضرورة لا تنفك عن تجديد الفكر الدينى، بل ترتبط به ارتباطًا وثيقًا، فمن محاور التعليم الرئيسة تعليم المبادئ والقيم الدينية ومعرفة أحكام الأصول والفروع والقواعد الضابطة للتفكير والنظر، فهو فيما يتعلق بالجانب الدينى لا يقتصر على مجرد التعلم لما هو معلوم، وإنما يؤسس لتكوين ملكة التفكير والتأمل ليتعامل المتعلم بنفسه بعد اكتمال تكوينه العلمى مع القضايا التى تعرض له بنوع من التدبر، وتكون لديه القدرة على فهم وتعلم ما لم يتعلمه من قبل، فإن رسخ فى العلم وارتقى درجات عالية من الفهم ربما تكونت لديه قدرة الاستنتاج والاستنباط كشيوخه الذين تعلم على أيديهم، بل ربما سبقهم وتفوق عليهم لرجاحة عقله على عقولهم.
ومما لا ينكره منصف أن التعليم فى بلادنا يمر بأزمة حقيقية نتيجة تداعيات حقب كثيرة تعرض فيها التعليم لإهمال فى كل عناصر العملية التعليمية سواء المعلم أو المتعلم أو المبنى التعليمى أو محتوى المنهج الدراسى، وهذا الإهمال والخلل واقع فى كل المؤسسات التعليمية دون استثناء، فأحوال المعلمين لا تخفى على أحد، والمتعلمون سيطر عليهم اليأس والإحباط نتيجة رؤية إخوانهم الذين أفنوا نصف أعمارهم للحصول على شهادات جامعية وأحيانا درجات علمية يمتهنون مهنا لا تمت لما تعلموه بصلة، وهى فى معظمها مهن حرفية لا تحتاج إلى دخول مدارس أو جامعات أصلًا. وأحوال المبانى التعليمية ليست أفضل حالًا من أحوال المعلمين والمتعلمين، فكثير منها لا يصلح لمباشرة العملية التعليمية، وبعضها يكاد يسقط على رؤوس الدارسين والمدرسين، أما المناهج التعليمية فهى حديث القاصى والدانى فى الآونة الأخيرة خاصة المناهج الدينية، غاضين الطرف عن أن المناهج غير الدينية تُستورد فى الغالب جاهزة أو تُستمد على أفضل تقدير من مناهج دول تختلف عنا ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، فضلًا عن أنها ربما تكون جامدة عن التطوير والتحديث، فيضاف إلى عدم ملاءمتها لبيئتنا تخلفها عن مواكبة العصر ومتطلباته فى كثير من جوانبها، بالإضافة إلى أن محاولات الإصلاح تسير فى كثير من الأحيان بطريقة تزيد من مشكلات التعليم ولا تصلحه، حيث غالبًا ما يتولى أمر انتقاد المناهج التعليمية والمطالبة بإصلاحها غير متخصصين، فضلًا عن كونهم غير متجردين، بل إنهم غالبًا ما يكونون أصحاب أهواء وأغراض،حيث يتناولون المناهج تناولًا خاطئًا مغايرًا للحقيقة، ولاسيما المناهج الدينية التى يحمّلونها أكثر مما تحتمل، وهى كغيرها من المناهج تعانى من بعض المشكلات، لكن من الظلم البيّن رد أسباب التطرف والإرهاب والتعصب إليها، بل إن استخدامها كذريعة لتصفية الحسابات والنيل من القائمين عليها لخدمة أغراض معينة هو الخلفية الحقيقية لكثير من حاملى عصا ضرورة تجديدها، وهذا لا ينتج إصلاحًا ولا تطويرًا حقيقيًّا، بل يعطل مسيرة تطويرها لانشغال القائمين عليها بالرد على هؤلاء المنتقدين لبيان زيف ادعاءاتهم، وإذا أردنا تجديدًا حقيقيًّا وإصلاحًا ملموسًا لتعليمنا، فعلينا أولًا وقبل كل شىء الاعتراف بمشكلات تعليمنا، وإخلاص النية قبل المضى فى الإصلاح والتطوير ليكون المنطلق هو الإصلاح بهدف الإصلاح وليس إرضاء للمنتقدين، وحتى تكون منظومة التعليم فى بلادنا على النحو المرجو، فإنه من الضرورى تكوين مجلس قومى للتعليم يشارك فى عضويته خبراء فى مجال التعليم من جميع المؤسسات القائمة على التعليم ومن خارجها، وتكون مهمته رسم السياسة التعليمية العامة، وتحديد الهدف من المخرجات التعليمية، والتنسيق بين المؤسسات القائمة على التعليم بجميع أشكاله ومراحله، مع مراعاة خصوصية كل مؤسسة من هذه المؤسسات، وهذا من شأنه أن يوجد تكاملية تعليمية بين هذه المؤسسات العامة والخاصة، وتكون من مهمات هذا المجلس أيضا اتخاذ الإجراءات التى من شأنها تخلى الجهات غير المؤهلة عن مباشرة العملية التعليمية ضمن أنشطتها، كما تكون من مهمات هذا المجلس محاولة ربط التعليم باحتياجات سوق العمل حتى يتوقف إهدار الأموال التى تنفق على تعليم لا يستفيد منه المتعلم، ويعنى هذا المجلس كذلك بدراسة مشكلات التعليم بطرق علمية تعتمد المسح الميدانى من داخل المؤسسات التعليمية، وتستند إلى الاستبانات الكاشفة التى يشارك فيها المعلمون والطلاب وأولياء الأمور والخبراء فى مجال التعليم، وبعد رصد المشكلات وتحليل هذه الدراسات تُستخلص النتائج وتوضع بين أيدى القائمين على أمر التعليم بالمؤسسات كلها، كل فيما يخصه، ليحولها هؤلاء بدورهم إلى خطط قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى لعلاج المشكلات، وصولًا إلى الهدف المنشود.