المشهد السياسي الفرنسي: الوجوه المألوفة تتوارى وغير المألوفة للأمام سِر، هذا باختصار ما أسفرت عنه الانتخابات التمهيدية لليسار أمس وما تمخضت عنه المستجدات في الأيام القليلة الماضية. لم يعد بمكنة أي محلل التنبؤ بما ستؤول إليه الانتخابات الرئاسية، ذلك أن تغير مزاجية الناخب الفرنسي متبوعا بتلاحق الأحداث وبتصاعد وتيرتها، يضفيا غموضا على المشهد السياسي.
من جديد يحار المرء في قراءة المشهد السياسي الفرنسي، كانت تلك الحيرة لحين سويعات، أما وأن فاز بتمثيل اليسار الفرنسي بنوا هامون، الوجه غير المألوف والفائز غير المتوقع، على الأقل حتى قبل الجولة الأولى للانتخابات التمهيدية لليسار يوم ٢٢ من الشهر الجاري، وتزامن ذلك مع مُعوقات وعثرات أُلقيت في طريق المرشح اليميني فييون، فإن ضبابية المشهد السياسي إلى انقشاع، وأضحت الرؤية أكثر وضوحا لحد ما.
مُبتدأ القول أنه بمكنتنا القول وبحق بأن المشهد السياسي الفرنسي على صفيح ساخن، المُعطيات إلى تغير والتحليلات إلى تبدل، واستبق سؤالا بإجابته، ما الذي دفعني إلي تغيير قراءتي للمشهد السياسي الفرنسي؟ والإجابة جد بسيطة، إذ تكشفت وقائع فارقة، وحوادث حاسمة، أدّت إلى إرباك في المشهد السياسي الفرنسي وبالنتيجة لذلك إرباك التحليلات والتوقعات السابقة، طبيعة التحليل أن تأتي متوافقة مع مستجدات أرض الواقع ولا تنعزل عنه، بل تتكيف مع ما يطرأ عليها من تغيرات وتحتوي ما يستجد من معطيات.
هذا التحليل الجديد مشروط بالثبات النسبي للوقائع ومرهون بعدم المفاجآت والتغيرات الجذرية للمسرح السياسي ولقواعد اللعبة السياسية الفرنسية، فالتحليل والمعطيات تحكمهما علاقة طردية الاتجاه.
حتى كتابة هذه السطور، ووفقا لجديد المعطيات وحديث المفاجآت، ثمة عنصران فاعلان، يسهمان في قراءة وفهم الواقع السياسي والتنبؤ بالساكن المُرتقب لقصر الإليزيه، هذان العنصران هما زوجة مرشح اليمين فرانسوا فييون، السيدة پينيلوپ فييون، والثعلب الماكر، جيرارد كولومب، عمدة مدينة ليون.
تُسهم زوجة فييون في جلاء المشهد كثيرا، إذ لو ثبت صحة الادعاءات بتقاضيها راتبا دون عمل فعلي، فسوف تكون تلك الواقعة النهاية السياسية لزوجها فييون والنهاية المؤلمة لحلم اليمين في العودة إلى قصر الإليزيه من جديد. أمّا في حالة عدم ثبوتها فإنها قد وضعت اليمين في مأزق، وسوف يستخدمها غرماءه في التسويق للنيل منه. يضاف إلى هذا العنصر ويتحد معه في المآل ما طالعتنا به بعض الصحف الفرنسية أمس الأحد من احتمالية وجود شبهة استيلاء على المال العام من قبل مرشح اليمين فييون.
أمّا العنصر الفاعل الثاني فهو الدعم المُخلص لعمدة مدينة ليون للمرشح الشاب المارد المتمرد إيمانويل ماكرون، فبالرغم من إعلان فوز بنوا هامون، الوجه غير المألوف لليسار، بتمثيل اليسار في سباق الاستحقاق الرئاسي، أكد من جديد عمدة مدينة ليون دعمه المطلق والمُخلص للمرشح ماكرون، ولعل هذا الدعم يسهم من ناحيته في محاولة لفهم ما يجري على المسرح السياسي الفرنسي.
ويأتي الدعم المُخلص من قبل عمدة ليون لماكرون، عاملا حاسما في احتمالية فوز الأخير بالانتخابات الرئاسية، في كوّن مدينة ليون ذات أغلبية يمينية، وبالرغم من ذلك، نجح الثعلب كولومب في الفوز بمنصب العمودية لثلاث فترات متتالية رغم كونه يساري، أي أن هناك ناخبين يمينيين وهم كثر يصوتون له ويثقون فيه، وبما أنه مُخلص في دعمه لماكرون، فسوف يجلب ذلك ناخبين كثر من شتى الاتجاهات ومختلف الأحزاب للتصويت لماكرون، فضلا عن الشرخ الكبير في الجدار اليساري الذي أحدثه انشقاق عمدة ليون عن دعم المرشح الرسمي لليسار حتى قبل إعلان فوز بنوا هامون.
هناك عنصر آخر، أقل أهمية من العنصرين السابقين، وهو دعم المرشحة الرئاسية السابقة (انتخابات عام ٢٠٠٧) السيدة سيجولين رويال، لماكرون، إن كان لذلك من مؤشر ودلالة فهو أن اليسار ليس على قلب رجل واحد، وأنه في مفترق طرق.
تصاعد وتيرة داعمي المرشح ماكرون، جعلني أتراجع عن تحليل سابق، مفاده بفرض وصول ماكرون للدور الثاني في الانتخابات الرئاسية فسوف يتخلى عنه اليسار نكاية فيه، أما وقد تغيرت المعطيات وتحدثت فبمكنتنا الْيَوْمَ القطع بالعكس، ففي حالة وصوله للدور الثاني، وهو أمر أضحى راجح غير مرجوح، سيلتف حوله كثير من اليسار، فذلك الأخير يعاني من تقطع في الأوصال وتَفرُق كلمة وغياب المرشح الكاريزما.
آنية الواقع وحالّة المستجدات، مع فرضية ثباتها تؤدي إلى وافرية فوز ماكرون، ذلك أن الأمر لا يخلو من ثلاثة احتمالات مع استحالة حسم مرشح للانتخابات من الجولة الأولى:
الاحتمالية الأولى: أن يصعد المتمرد ماكرون للدور الثاني مع اليمين المتطرف، وفِي تلك الفرضية، أعتقد بأن كل من اليمين واليسار والوسط سيصوتون لماكرون، نكاية في اليمين المتطرف، وللحول دون وصول الأخير إلى الحكم.
الاحتمالية الثانية: أن تكون الإعادة بين اليمين وماكرون، وهنا سيحتشد اليسار وبعض من اليمين خلف ماكرون لإنجاحه ولإسقاط اليمين.
الاحتمالية الثالثة: أن يصعد اليمين المتطرف إلى الدور الثاني لمواجهة اليمين، وهنا سوف يحشد اليسار كل طاقاته لإنجاح فييون مرشح اليمين، وقد حدث ذلك في الانتخابات الإقليمية عندما انسحب اليسار من انتخابات بعض الأقاليم ودعا إلى التصويت إلى اليمين لغلق الطريق أمام اليمين المتطرف.
استبعدت عن عمد احتمالية أن تكون الجولة الثانية بين بنوا هامون المرشح الرسمي لليسار وأيٍ من المرشحين الآخرين، ذلك أن شعبية اليسار متأثرة بالأحداث الإرهابية قد تراجعت، يضاف إلى ذلك غياب المرشح الكاريزما، ويعضد هذا وذاك تنامي ملحوظ لليمين المتطرف في أوروبا وفِي فرنسا بالأخص.
يقوض من فرص اليسار الفرنسي أيضا أنه وعكس اليمين الذي اصطفّ خلف مرشحه فييون رئيس الوزراء في العهد الساركوزي، نجد عدم اصطفاف في الصف اليساري وأن السوس قد نخر أعمدة تماسكه، ونال التصدع منه الكثير والكثير، وبرزت الانشقاقات.
في توسطه المسرح الانتخابي وفِي قبوله لدى الناخب الفرنسي تتضاعف فرص فوز إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ما حملني على تبني تلك الاحتمالات أن لماكرون من الذكاء بمكان بأن احتفظ بمسافة واحدة بينه وبين اليمين من ناحية وبينه وبين اليسار من ناحية أخرى، فلا نستطيع تصنيفه يمينيا أو يساريا، ناهيك عن قبوله لدى الناخب الفرنسي أيا كان توجهه السياسي.
لم تشذ الانتخابات التمهيدية لليسار الفرنسي إذًا عن الفجائية المهيمنة على الانتخابات الغربية وبالأخص في الولايات المتحدة الأمريكية. ولا أظن أن الانتخابات الرئاسية ستنحى منحى مغاير لتلك الظاهرة، ولئن كنت لازلت أعول على اعتدال الناخب الفرنسي ووسطيته، وتأرجحه بين اليمين واليسار، وأراهن على فطنته وتجنبه الجنوح المتطرف.
أهي عدم ثقة في الوجوه المألوفة والتي تقلدت مناصب تنفيذية وتشريعية عدة؟ أم أنها موضة التغيير وعارمية الرغبة في رؤية وجوه جديدة؟ مُقبل الأيام وقادم المفاجآت سيجيبنا على تلك استفسارات حائرة...