دكتور حاتم العبد يكتب ..أمريكية ترامب وترامبية أمريكا

بات من اليقين وأضحى من الحقيقة وأمسى من الواقع ترأس الإمبراطور الاقتصادي دونالد ترامب لأكبر قوة دولية في العالم، وبات يقينا وأضحى حقيقة وأمسى واقعا جهل ترامب بأبجديات السياسة، وبأن إدارة دولة بحجم وقوة الولايات المتحدة يختلف عن إدارة شركة. وأصبح معلوما للقاصي والداني قدر ما يتمتع به من مراهقة سياسية متأخرة وشغف بالألعاب الصبيانية وباتت مقولته أنه سوف يدير الولايات المتحدة كما يدير إمبراطورتيه الاقتصادية، مُزحة ومصدر سخرية ومرتع تهكم.

هناك فرق بين أن يتأمرك القرار الترامبي وبين أن يترمبك القرار الأمريكي، فالفرضية الأولى أكثر قبولا ومنطقا وأخف ضررا من الثانية، حتى بفرض شططها، كما حدث مع بوش الابن عندما غزا العراق، يظل الخيار الأول هو المسموح به، في دولة ديمقراطية مؤسسية كالولايات المتحدة الأمريكية.

مسلك ترامب يلقي بالضبابية الآنية والالتباس على المشهد السياسي الأمريكي، ويزيد من حجب الرؤية سيما في بداية حكمه. على مدار التاريخ الأمريكي انتصرت أمريكية القرار على اختلاف مُصدره وتنوع اتجاهه، أي سواء أكان قرار للحزب الديمقراطي أو الجمهوري، إلا أنه يبقى مألوفا، منعوتا بالأمريكية، معنونا بالسياسة المُتخذة المسموح بالتحليق في سمائها، مستهدفا الصوالح العامة وليست الصوالح الشخصية.

كان لدلالة توقيع القرار المثير للجدل بشأن منع مواطني سبعة دول مسلمة من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، قاطعية الدلالة في اتهام تلك الدول بالإرهاب وتوفير الحاضنة الآمنة له. إذ إن توقيع هذا القرار في مقر وزارة الدفاع يحمل الكثير من الرسائل، لعل أهمها أنه وفق تصور مُصدره قرار حرب، وأنه اتخذه بصفته الرئيس الأعلى للقوات المسلحة، تلك الوزارة المنوط بها حماية أمن وأمان الأمة الأمريكية، بل وأن المؤسسة العسكرية تؤيده وتقف معه وسوف تطبقه. وهذا ما أدى إلى تفاقم الوضع وانتشار شجبه وذيوع استنكاره، والأمر مُرجح للاستنفار.

يبدو أن الملياردير والإمبراطور الاقتصادي لا يعلم شيئا عن الدولاب المؤسسي للولايات المتحدة، وغاب عنه أن المؤسسية الأمريكية لن تقبل منه أمر "أنا ربكم الأعلى". لم يعهد ترامب مراجعة لقراراته، أو اعتراضا على وجهة نظره أو رفضا لأفكاره، وهذا مُتفهم لحد ما في القطاع الخاص، إذ قد ينأى مسؤول في شركة بنفسه عن الاعتراض أو تبني وجهة نظر مغايرة لصاحبها، فهذا المسؤول وقد ضمن مرتبه ومخصصاته، فلا يهمه بعد ذلك صوابية قرار صاحب الامبراطورية من عدمه. أمّا في إدارة مؤسسة عامة فالأمر جد مختلف، فما بالنا بالدولة حيث تتقاطع المصلحة العامة مع الأمن القومي، والكل يعمل تحت رايتها، لا مجال لشخصنة أو قرارا شاذا وما بالنا إذا كانت تلك الدولة هي الولايات المتحدة الأمريكية
لن تقف المؤسسية الأمريكية مكتوفي الأيدي، وكأنّ على رؤوسها الطير إزاء القرارات العنصرية والمتطرفة لترامب، وها نحن نلحظ تحركا سريعا، فالمدعي العام لواشنطن أقام دعوى قضائية ضد قرار ترامب بحظر دخول جنسيات سبع دول للولايات المتحدة.

استبقت الرعونة الترامبية الصدام المباشر مع المؤسسية الأمريكية واستعجلتها، فصبيحة الْيَوْمَ أقال ترامب سالي بيتس وزيرة العدل بالوكالة بعد إصدارها تعليمات للمدعين العموم بعدم تطبيق قرار ترامب العنصري، ووصفها البيت الأبيض بأنها خانت وزارة العدل برفضها تطبيق قرار قانوني لحماية مواطني الولايات المتحدة.

من المقطوع بصحته أن المؤسسية الأمريكية من القوة بمكان بأن تعيق أي رئيس عن ممارسة عمله، واستخدام صلاحياته، كالسوابق العديدة في عهد كينيدي. ويعزى نجاح أي رئيس أمريكي في منصبه إلى قدرته على التفاهم والتواصل بل والتناغم مع كافة أزرع المؤسسية الأمريكية، ولعل أهمها جهاز المخابرات والشرطة الاتحادية ووزارة الدفاع والعدل ومما لا شك فيه الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب.

لم يشفع للرئيس السابق كلينتون ما أحدثه لبلاده من نمو اقتصادي غير مسبوق من أن يحال للمحاكمة وكان قاب قوسين أو أدنى من الخلع، على الرغم من أنه كان يحظى بتأييد كثير من أعضاء الكونجرس حتى الجمهوريين منهم.
فما بال ترامب، الفائز غير المتوقع، والمفتقر إلى القبول حتى داخل الحزب الجمهوري والذي ترشح تحت رايته.

أغلب الظن أن الأيام القليلة القادمة ستحمل لنا صراعا عنيفا بين الرعونة الترامبية والمؤسسية الأمريكية، لكنها تلك المرة ستقام جولاتها في حلبة الشرعية، وملعب القانون، ولن يُسمح للترامبية الانقضاض على الشرعية من الأبواب الخلفية والعنصرية، وتوجيه ضربات خارج الحلبة الشرعية والرقعة المخصصة للعب والوقت المحدد لها.

ولرب ضارة نافعة، فباستباقه توقيع هذا القرار العنصري لتنفيذ وعده بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس، جلّ الأثر وبالغ الأهمية في أن يفكر آلاف المرات قبل الإقدام على مثل تلك مراهقة صبيانية، ولعبة بالنار غير محسوبة العواقب، ليس هو فحسب الذي سيفكر في الأمر مليّا، بل من قبله المؤسسية الأمريكية بمختلف أجنحتها، ولن يغيب عنها وقتئذ حجم المظاهرات غير المسبوق والرفض العالمي الرسمي وغير الرسمي على قرار منفرد، يتضاءل رغم عنصريته بجانب حماقة كبرى وكارثة عالمية بنقل السفارة الأمريكية للقدس، ستهدد السلم والأمن الدوليين.

أغلب الظن أن هذا الوعد قد أضحى حلم من الماضي وأنه لن ير النور يوما قط.

فات على ترامب أنه في الوقت الذي يعادي فيه المهاجرين، فإن زوجته مهاجرة، إذ إنها سلوفانية الأصل ولم تحصل على الجنسية الأمريكية إلا عام ٢٠٠٦، وتعد ثاني سيدة أولى من أصل أجنبي، أم أنه مباح له وحرام على غيره؟ أليس مرد العدالة القياس على النفس؟ أم أنه يريد أن يفسر العالم مسلكه بأنه يحارب ديانة رئيسية في بلاده وأنه قد رفع راية العنصرية بتبجح؟ أليس أحرى به أن ينظر إلى نفسه أولا!!

على الترامبية الأمريكية، إن أرادت الاستمرار في الحكم، أن تتخلى أولا عن رعونتها، وعن ألعابها الصبيانية وأن تنضج وتتخطى مرحلة المراهقة المتأخرة، عليها أن تعي جيدا أبجديات العمل السياسي وأن تفهم مدلوله وأن تمتلك أدواته، ليس أقل من ذلك أن السياسة هي فن الممكن، وأنه مدعو لتجنب خلق عداوات وعليه أن يعي أن إدارة دولة بحجم وقوة الولايات المتحدة يختلف تماما عن إدارة تكتل اقتصادي وإن تضخم حجمه ليصل للإمبراطورية.

على الترامبية الأمريكية أن تضع نصب أعينها الأمن القومي الأمريكي وحجم عارمية الغضب اعتراضا على نجاحها، واتساع رقعة الاحتجاجات والمظاهرات لتشمل العالم كله، عليها أن تعلم أن مفاجأة فوزها وتربعها على العرش الأمريكي، قد لا تقل عن مفاجأة إجبارها على التنحي أو بالأحرى خلعها.

هل ستغلب الأمريكية على ترامب؟ أم ستغلب الترامبية على أمريكا؟ مُقبل الأيام وقادم التصرفات، سيجيبوننا على ثمة توجسات ومخاوف مشروعة...

في النهاية، هل يحق لنا نحن العرب، ألا تشْخص أبصارنا عام ٢٠٢٠، وألا تُحبس أنفاسنا في ترقب ما ستسفر عنه الانتخابات الأمريكية وقتئذ؟ ألم نملل من الجلوس على مقعد المشاهدين؟ أما حان الوقت للنزول إلى أرض الملعب؟ ألم يحن الوقت لتراهن علينا الأمم؟ ألا نملك قواعد اللعبة؟ أما حان الوقت لإجادتها؟ أم أننا ألِفنا تبعية ممقوتة، وآنسنا تنفيذ القرارات لا صنعها، وارتضينا أن نكون قطع شطرنج لا تملك من أمر نفسها شيئا!!












الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;