ربما سمع كثير من الناس كلمة «السَّلَم»، لكن المؤكد أن كثيرًا ممن يسمعونها لا يعرفون المراد منها، مع أن الناس أفرادًا ومؤسسات، ولا سيما فى زماننا، فى حاجة ماسة إلى هذا النوع من عقود البيوع، ويمارسه بالفعل كثير منهم فى مجال البيع والشراء من دون أن يدرى. وبيع السَّلَم باختصار يناسب المقام هو نوع من أنواع البيوع التى شُرعت للتيسير على الناس، فهو تعاقد على تسلم مبيع آجل بثمن عاجل. والسَّلَم فى اللغة بمعنى السلف، وهو قريب من المعنى الشرعى؛ حيث إن السلف فيه تأخير تسليم ما أخذه الإنسان من نقد ونحوه، والسَّلَم فيه تأخير تسليم الشىء المبيع الموصوف، فهو شراء آجل بعاجل، أى إن المشترى يدفع ثمن السلعة للبائع مقدمًا على أن يتسلم السلعة بعد فترة زمنية محددة، ودليل مشروعية هذا البيع قول النبى، صلى الله عليه وسلم: «من أسلف فليسلف فى كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»، وهى ضوابط مهمة تضبط عملية التعاقد الآجل لتحقيق الفائدة التى شُرع لأجلها وإن كانت مغايرة لقاعدة البيع والشراء، فالأصل فى البيع دفع الثمن وأخذ السلعة فى الحال، غير أن أحوال الناس وحاجاتهم اقتضت أن يشرع لنا الشرع تيسيرات فى مجال البيوع، ومن ذلك عقدا السَّلَم والاستصناع، فقد يكون المرء فى حاجة ماسة إلى مال نقدى لعلاج مريض أو نفقات سفر أو دراسة أو زواج أو نحو ذلك، ولديه مثلًا مزارع أو حدائق مثمرة ثمرًا لم ينضج بعد، ومن ثم فهو غير صالح للبيع فى السوق، ولما كان هذا المالك لهذا الثمر فى حاجة ماسة للنقد وقد لا يجد من يقرضه من دون زيادة ربوية إلى أن ينضج ثمره أو يستوى زرعه؛ فقد رخَّص له الشارع فى بيع هذا الثمر أو الزرع على أن يقبض الثمن حالًا ويسلم الثمر للمشترى بعد اكتمال نضجه، وهذه مصلحة واضحة لطرفى العقد البائع والمشترى، وتتجلى مصلحة المشترى فى هذا النوع من البيوع–وإن كان لن يتسلم ما اشتراه فور التعاقد–فى شرائه السلعة بثمن أقل من سعرها لو سُلِّمت فى الحال، حيث جرت العادة على ذلك، وهناك فائدة أخرى للمشترى، فقد يكون تاجرًا كبيرًا يشترى كثيرًا من الزروع والثمار، ولكن ليست لديه الأماكن المناسبة لحفظها وتخزينها حتى يبيعها، ولذا فهو يتعاقد بهذه الطريقة على سلع يتسلمها فى أوقات متتالية بحيث كلما تسلم منها شيئًا باعه، وهكذا من غير أن يتحمل مؤونة حفظه وتخزينه، ومن أجل هذا يسمى بيع السَّلَم ببيع المحاويج أو المفاليس.
ومع أن أصل مورد عقد السَّلَم فى المزروعات والثمار، إلا أنه يمكن التوسع فى استخدام هذه الصيغة التعاقدية بشكل كبير فى مجال الصناعات، ولعلها مستخدمة بالفعل وإن لم يُنص على أنها بيع سَلَم، حيث يتم التعاقد مع أحد مصانع إنتاج السيارات أو الطائرات أو الأثاث أو غيرها بأن يُدفع ثمن شراء بعض منتجات هذه المصانع على أن تُسلَّم للمشترى فى وقت آجل يتفق عليه الطرفان، وفى هذا تيسير حصول المشترى على ما يحتاجه من هذه المصنوعات فى الوقت الذى يريده، وهو المتفق عليه مع الشركة المصنِّعة، وفيه أيضًا منفعة للمصنع، إذ يستفيد بالثمن فى الحصول على المواد الخام ودفع نفقات العمال ومؤونة التصنيع، وهو فى الوقت ذاته ضمن بهذا البيع عدم كساد ما يصنع، وهى مشكلة كبيرة تواجه المصانع وخاصة المصانع المحلية فى كثير من الأحيان، إما للركود الاقتصادى وإما لزيادة جودة المصنوعات المماثلة المنتجة فى مصانع أخرى، مما يفقد المنتج القدرة التنافسية عند عرضه للبيع فى الأسواق.
وينبغى للمتعاقدين سَلَمًا فى سائر المجالات الزراعية والتجارية والصناعية الالتزام بالضوابط الشرعية منعًا للغرر وتفاديًا للمخاطر أو وقوع خلاف بين المشترى والبائع عند التسليم، وقد حدد رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، الأمور التى تضبط هذا النوع من البيوع، وهى الاتفاق على كيل السلعة أو وزنها وصفاتها النافية للجهالة عنها ووقت التسليم، وحدد فى حديث آخر وصفًا مهمًّا يمنع المخاطرة بدرجة كبيرة؛ حيث نهى عن بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها؛ بمعنى أن تكون الثمار المتعاقد عليها سَلَمًا قد اقترب نضجها، كأن يكون القمح المبيع مثلًا يصلح أن يُصنع منه ما يسمى فى الصعيد بالفريك، أو يكون البرتقال مثلًا اكتمل حجمه لكنه لا يزال لونه أخضر، أو تكون غرفة النوم مثلًا انتهى الصانع من هيكلها الأساسى وبقى تشطيبها ودهاناتها، وهكذا. ومع أن هذه الضوابط رآها بعض الفقهاء قيودًا حاكمة، فإن بعضهم الآخر اكتفوا باشتراط قدرة البائع على تسليم السلعة فى الوقت المحدد بمواصفاتها المتفق عليها وإن غلب على الظن ذلك، وهو توجه يحقق مرونة كبيرة فى مجال البيع والشراء من خلال التعاقدات التجارية والصناعية، ومن هذا المنطلق لا يجب حمل بيع المقدور على تسليمه فى الوقت المتفق عليه وإن لم يكن موجودًا عند البائع وقت التعاقد، على عموم نهى النبى، صلى الله عليه وسلم، عن بيع ما ليس عند البائع بقوله: «لا تبع ما ليس عندك»، وذلك تيسيرًا على الناس فى قضاء حوائجهم، أما غير المقدور على تسليمه فى الوقت المتفق عليه وليس فى ملكية البائع وقت التعاقد، فيدخل فى عموم نهى النبى، صلى الله عليه وسلم، عن بيع ما ليس عند البائع.