نتابع خلال السنوات القليلة الماضية وتحديداً خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب، حديث المثقفين الفيسبوكيين عن الشعراء "الحلامنتيشيين"، حيث نطالع يومياً خلال أيام المعرض صوراً من صفحات دواوينهم "أو ما يدعون أنها دواوين شعرية" عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتحديداً الفيس بوك، مصحوبة بوصلة من السخرية مع سؤال أراه متعمداً: هل هذا هو الشعر في مصر الآن؟ أو جمل من قبيل : هذا هو إنتاج معرض الكتاب ، أو : هذا هو حال الأدب في مصر، لدرجة أنه في سنة من السنين الماضية قام برنامج مرموق يُعده ويقدمه أشخاص محسوبين على المفكرين والإعلاميين المرموقين، باستضافة أحد هؤلاء الشعراء وناقشه في ديوانه الذي افترض البرنامج أنه ديواناً شعبياً لمجرد أن فتيات صغيرات تزاحمن على الشاعر الذي تصادف أنه مغني راب معروف لدى أوساط المراهقين.
أتخيل بشكل شخصي ومن خلال حسي التآمري أن الترويج والتركيز على هؤلاء المدعين من الشعراء خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب تحديداً، موضوع أشبه بالمؤامرة لترويج أن المصريين أصبحوا كائنات جاهلة غير عاقلة لا تقرأ ولا تدرك الأدب والفن الثمين وتذهب لمتابعة كل ما هو غث وسوقي ووضيع. أشعر أن الأمر أيضاً أشبه بالمؤامرة على معرض القاهرة الدولي للكتاب نفسه في محاولة لوقفه أو صرف الأنظار عنه. محاولة أيضاً لتشويه القائمين على هذا المعرض وتحويلهم لشلة من المنتفعين الذين يروجون للدجل القائم على جهلهم، وهو أمر غير صحيح بالمرة.
أتساءل لماذا يتم الترويج لهذه الأعمال الغثة ولو كان بالسخرية منها؟ معروف تماماً أن الدعاية السلبية أهم من الإيجابية وأنها تساعد على انتشار ما يتم هجاؤه والتحقير منه وأنه حتى مع إنتاج مثل هذه النوعية من الكتب التي تناسب حالة فوضى النشر في مصر، حيث أن من يملك 5000 جنيه وأحياناً تصل لألفين، يستطيع أن ينشر أي شئ في أي دار نشر (ما هو ناشر على حسابه)، لا يمكن التركيز عليها بوصفها الوضع الحالي للمنتج الأدبي المصري، فالعكس تماماً هو الصحيح، فلأول مرة منذ عقود طويلة يصبح في مصر تنوعاً كبيراً في الإنتاج الأدبي المميز، فنحن الآن لدينا أجيالاً مختلفة من الكُتَّاب وكلها لديها قطاع كبير من القراء، كما أصبح لديناً أيضاً تنوعاً في شكل المنتج نفسه سواء كان شعراً أو نثراً، إضافة إلى المنتج المعرفي الآخر من كُتب بحثية تاريخية وعلمية واجتماعية ونفسية وفلسفية وترجمات .... إلخ.
إن دور النشر الحقيقية في مصر تقاتل من أجل البقاء في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي نمر بها مع انعدام أي نوع من الدعم المؤسسي لها، ورغم كل شئ تصر على إنتاج كُتب مميزة ومتنوعة وهامة، هذا بالإضافة إلى الدور الكبير الذي تلعبه الهيئة العامة للكتاب من تبني ونشر سلاسل أدبية وعلمية هامة سواء عربية أو مترجمة، مع تنظيمها للمعرض سنوياً، ومشقة ذلك في ظل التعثر المالي الذي نعاني منه جميعاً وفي كل القطاعات.
لماذا لا تنشرون غلافاً أو صفحات من كتاب مميز لأديب شاب يحلم بأن يُقرأ وأن يكون له جمهور، بدلاً من تلك السطور الغثة التي تركزون عليها وتروجون من خلالها كذباً أننا دولة أُفرغت تماماً من العقل والإبداع؟ ... أنا لا أنفي أننا نعاني من مشاكل كثيرة وأن الحالة الثقافية في مصر ليست بخير، ولكن مازال لدينا أبطالاً يأخذون المسألة التثقيفية على عاتقهم ويعيشون الفاقة حتى ينتجون كتاباً جيداً حتى وإن لم يصل إلا إلى خمسة أفراد.
مصر لم تعدم الكاتب والناشر الحقيقي الذي يقدم أعمالاً تحترم العقول وترقى بها، ويحلمون بأن يصلوا إلى كل مصري في كل محافظة، ويعانون يومياً من الضيق المادي وثِقل متطلبات الحياة التي يعاني منها كل المصريين، لكنهم مع كل هذا يُفرغون بضع ساعات من زحام حياتهم ليقدموا منتجاً معرفياً وهم يعرفون جيداً انه لن يغنيهم ولن ينفق على أبنائهم، رغم ذلك لا يتوقفون ويستمرون في العمل فقط من أجل أن يكملوا رسالة المعرفة ليسلموها لمن بعدهم ولا تتوقف قافلة التنوير والثقافة فنتحول إلى شعب كامل من الرعاع.
لماذا لا تعطون هؤلاء حقهم على الأقل المعنوي بأن تشيروا إليهم وإلى صفحات من كتبهم بدلاً من اختيار سطور مريضة لشخص جاهل نشر كتاباً على حسابه الخاص ليوزعه على أصدقائه في المقهى ويتفاخر بكونه شاعراً أو أديباً وهو لا بهذا ولا بذاك ؟
معرض القاهرة الدولي للكتاب يحتوي على ملايين السطور الثمينة التي كتبها كُتَّاب مرموقين ينتمون لكافة الأجيال وينتظرون أن تقرأوهم وتشيروا إليهم حتى يقرأهم غيركم فينتشر الثمين بيننا بدلا من الغث الذي تصرون على أن تضعوه في الصدارة.