يسْكن ذهني ويشْغل بالي، ويؤرِق منامي، ويأسِر فكري، ويؤلِم وجداني، ويحرِك مشاعري، ويمسّ أحاسيسي، ظاهرتا الطلاق والترمُّل المتفشيتان في مجتمعنا، وما يخلفانه من صدْع في الجدار الأُسَري، ونقص في الاحتياج الأبوي أو الأمومي، وحرمان في المُكون العاطفي.
تَدق الإحصائيات نواقيس الخطر وتُطلق صافرات الإنذار، وتَبعث بنداءات الاستغاثة، وتُشير إلى كارثية الموقف وخطورة الوضع وفجاعة الآت، بفرض تفاقم الوضع الراهن. ذلك إن تفاقم ظاهرة الطلاق تُنذر بعواقب وخيمة على وحدة المجتمع وبنيته الأساسية وعماد قوته وهي الأسرة.
أن تتصدر مصر المركز الأول في بطولة رياضية أو ثقافية لهو عين النجاح، أمّا أن تتصدر المركز الأول عالميًا في نسبة الطلاق فثمة خلل وجب إصلاحه، وفاجعة حقّ الاعتراف بها، وكارثة مُحدقة حلّ التصدي لها، وهاوية عافانا الله من السقوط فيها.
أن نعلم أن هناك ٩ ملايين طفل بعيدين عن حضن أبويهما، أن نعلم أنه في العام الماضي ٢٠١٦ وصل معدل حالات الطلاق إلى ٢٠ حالة في الساعة، أي ما يعادل ١٧٠ ألف حالة سنويا، وأنه في ذات العام سُجلت ٨٩٤٥٩ دعوى طلاق و٩٠ ألف دعوى خلع، من أصل ٩٠٠ ألف حالة زواج، أي أن ما يقارب نسبة ٢٠ في المائة، لأدركنا لتونا حجم الكارثة التي نحياها، والأولوية التي يجب أن نوليها إياها.
قد يَعتري الرباط المُقدس، والميثاق الغليظ للزواج، عوارض تُضعف من قوته، وتَنال من صلابته، وتُهدد بقائه، كما قد تُجهز عليه، وتَضع حدا لاستمراريته وبقائه. فقد تنتهي العلاقة الزوجية بسبب لا إرادي، أي بالوفاة وقد تنتهي بسبب إرادي، أي الطلاق، فهل معنى ذلك الاستسلام ورفع الراية البيضاء لتلك العوارض؟ أم التغلب عليها وعبورها واستئناف الحياة واستمرارها؟ أأضحت تلك العوارض صخرة تتحطم عليها أحلام الرجال والنساء؟
المسيحية السمحة بروحانيتها، من جانبها أولت الأسرة اهتمامًا بالغًا، وتشددت في الحفاظ على الكيان الأسري لصالح الأبناء والمجتمع، فلم تُقر الطلاق إلا لعلة الزنا، ثم جاء الإسلام الحنيف بأن شرع الطلاق سبيلًا لمعضلات المشاكل، لكن جعل إباحته أبغض الحلال، ليس هذا فحسب، بل إنه أقام توازنًا عادلًا بين حق الزوج والزوجة في إنهاء الرابطة الزوجية، بأن أقرّ للمرأة أن تَفتدي نفسها بخلع الزوج الذي لم تمنعه رجولته من التنكيل بالقارورة والإساءة إليها.
سألت فُضليات أرامل ومُطلقات، ممن رزقن بالأبناء والبنات وممن لم يرزقن، وسألت أفاضل أرامل ومُطلقين ممن رزقوا بالأبناء والبنات وممن لم يرزقو. وسألت واستفسرت من أبناء هؤلاء وأولئك، عن تجربة الزواج الثاني، ومدى نجاحها في تضميد جراح الطلاق أو جبْر كَسرة الوفاة.
النماذج الناجحة : عندما يتأنّس الإنسان!
ثمة نماذج كُثر كانت للنجاح عنوانًا، فلم تقف حادثة وفاة شريك الحياة أو الطلاق منه عقبة أمام استئناف حياتها. بل على العكس، كانت واقعة الوفاة أو الطلاق بمثابة القوة الدافعة نحو استمرارية الحياة ولربما لتصحيح وجهة بوصلتها.
الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، فليس معنى أن كيمياء الزوجين لم تتحد، ولم تتآلف مكوناتها، أن نلومهما أو أحدهما، ولا ينتقص من شأن أحدهما ولا يشينه البتة الطلاق.
بأي شرع وقانون ننكر على الأرامل والمطلقين استئناف حياتهم؟ والونس بشريك حياة جديد، يعينهم على وعورة طرق الحياة وعثارة دروبها، وظلمة لياليها، وقارصية برد شتائها، واشتداد حرارة صيفها، وتحمل أعاصيرها، والتصدي لبراكينها؟
بأي حق نُنكر على أطفال شاءت الأقدار أن يجدوا أنفسهم مع أب مطلق أو أرمل أو أم مطلقة أو أرملة، أن يتمتعوا بدفء وحنان من حلّ محل الأب أو الأم؟ بأي حقٍ نَمنعهم حقهم في الاستمتاع بقول كلمة بابا أو ماما؟ أنحن أوصياء على بعض؟
أعرف حالة نادرة الحدوث، أن رجلًا اتفق وزوجته على الانفصال الودي ودون أدنى مشاكل أو علو صوت أو سباب أو تجريح، بل بكل احترام ونُبل خلق وسمو معانٍ، ليس هذا مثار الدهشة والغرابة، فهذا ما يجب أن يكون، أما ما أدهشني وفاجأني هو أن هذا الرجل هو مدير مجموعة شركات والد طليقته، وبعد حدوث الطلاق لم يستجد ثمة تغيّر على علاقة الرجلين، وظلّا على طيب علاقتهما، ولم يقيله صاحب المجموعة ولم يخونه ولم يتربص به، بل على العكس من ذلك، ازدادت صلاحيات طليق ابنته، هذا الأخير من جانبه، وكعهده دوما، أمينا مخلصا متخصصا ناجحا، استطاع أن يحقق مكاسب غير مسبوقة لمجموعة والد طليقته... والأمثلة كثيرة.
النماذج الفاشلة : عندما يتسلّع الإنسان!
أما الأمثلة السلبية وحالات الفشل فهي الأخرى جد كثيرة، فمِن متزوج من أرملة أو مطلقة بغية مالها أو لمجرد أن يكسب رهانا مع أصدقاء السوء إذا ما استطاع الظفر بها، ولربما كان سوء تقدير للموقف أو نزوة عابرة.
ولربما التسرع خشية القيل والقال، ورغبة في الستر واتِقاء شر ألسنة آثمة وأعين متلصصة وغيبة متربِصة ونميمة متحفِزة، يُجبر المطلقات والأرامل على قبول أول طارق لباب الزواج، دونما تفكير أو تعقُل أو تدبُر، وهنا تقع الواقعة، ويقعنّ فريسة سهلة لمنعدمي المبادئ وعديمي الأخلاق وأنصاف الرجال والمتلاعبين بالنساء.
وثمة نتائج شديدة السلبية في تلك الحالة، لعل أهمها قاطبة الأبناء وصدمتهم في شريك أو شريكة الحياة للأم أو للأب، بل وصدمتهم في الأب والأم بتضييعهم والتخلي عنهم.
مفاد القول ووجيزه، أن الطلاق والترمُّل لا ينبغي لهما أن يكونا عقبتان في إتمام المسيرة الحياتية، وأن يترك لأولي الشأن حرية الاختيار، دونما وصي أو رقيب مع إعلاء مصلحة الأبناء وتغليبها، فمُعتقدي أن الرجال والنساء بمجرد أن يهبهم الله الأبناء، عليهم أن يهبوا هم أنفسهم لأبنائهم ولتربيتهم.
لا أريد أن أعطي صورة قاتمة ولا وردية، فقط ذوي الشأن وحدهم هم أدرى من غيرهم بأحوالهم، شريطة ألّا يكون اختيارهم مِعول هدم لنفسية أبنائهم وتهديد لمستقبلهم. فلربما ارتضوا الارتباط من جديد ولربما أجلوا ذلك ولربما عزفوا عنه، وفِي كل الأحوال، الله نسأل أن تعزِف عنهم ألسنة المجتمع وأن يتركهم وخصوصية شأنهم.
ولا ينبغي أن تنال تلك العوارض من قيمة المرأة أو أن تنتقص من مكانتها في المجتمع، بأن تصبح خيار ثانٍ، ومثار لومٍ لمن أراد الزواج منها، وقبلة مهجورة، وسُبة في حق الزوج. فالمرأة نصف المجتمع، لها ما للرجل وعليها ما عليه، وكافة الأديان أوصت بها خيرًا.
سلامًا على كل فاضلة، مطلقة أو أرملة، آثرت أولادها على نفسها، وضحّت من أجلهم ولم تأبه بنظرة المجتمع ؛
سلامًا على كل فاضلة، مطلقة أو أرملة، ارتأت أن مصلحتها في الزواج الثاني، وكانت وبحق أمّ لأبناء زوجها ؛
سلامًا على كل فاضل، مطلق أو أرمل، تزوج من أرملة أو مطلقة، وتبنّى أبنائها ؛
سلامًا على كل فاضل، مطلق أو أرمل، آثر وبمحض اختيارية قراره، أن يَهب حياته لأولاده، فلم يتزوج ؛
سلامًا على ألسُن أبت أن تتأثّم بالخوض في أعراض الناس ؛
سلامًا على كل شريف عفيف واختياره الحر المجرد ؛
سلامًا على من أحسن الاختيار ؛
سلامًا على أبناء بارين مستنيرين احترموا رغبة الأب أو الأم وقراره أو قرارها ؛
سلامًا على كل من بذل جهدًا في سبيل الإبقاء على العلاقة الزوجية قائمة ؛
سلامًا على من يتزوج لشخصية شريك الحياة ومجردًا من أي هوى أو تأثير ؛
سلامًا على من أعلى من إنسانيته ولم يتسفّل ويَمتطي جواد ماديته ؛
سلامًا على من أنهى الرابطة الزوجية بخلق الفرسان وتعاليم الدين وصفات الرجال ؛
سلامًا على من لم يَخُض في أعراض غيره ؛
سلامًا على مجتمع واعٍ بأمور دينه، مدرك لأبعاد إنسانيته، مٌحترما لرغبة كل فرد في تقرير مصيره.
سائلا الله عزّ وجلّ، متمنيا عليه، أن يُجنّب مجتمعنا آفة الطلاق وأن يعين أراملنا على مشاق الحياة وأن يحفظ علينا شمل أُسَرنا...