فى كأس العالم الأخيرة 2014، كان لاعبو البرازيل ينظرون إلى أرض استاد «مينيراو» فى مدينة «بيلو هوريزونتى»، ولا يجدون بين العشب الأخضر سوى أشواك، أو خطوط متقاطعة ترسمها عرافة على يد طالب علم الغيب، أصبح على يقين بأنه سيعيش المستقبل محملًا بعار الماضى.
الألمان لم يجدوا فى شاشة الاستاد الكبيرة بعد 30 دقيقة من بداية المباراة سوى رقم، هتلر نفسه لم يحلم برؤيته فى مباراة أمام البرازيل.. ألمانيا تتقدم فى مباراة نصف النهائى بخمسة أهداف دون رد.. العالم تأسره الصدمة.
الجماهير البرازيلية تحاول ابتلاع الكارثة فى صمت تام، وتفتح بوابات العيون للدموع مع صافرة إعلان نهاية المباراة بفوز الألمان بسباعية، لم يخفف هدف أوسكار من مقدار الدنس الذى زرعته فى تاريخ البرازيل الكروى.
قطار الزمن رحل تاركًا البرازيل فى محطة الوهم بأن للعالم سوبر مان أو سبايدر مان جاهز لإنقاذه حينما يهجم الفضائيون، ومع الهدف السابع كان واضحًا للجميع أن من يعتمد على البطل الفرد سوبر مان، يستيقظ بعد سنوات طويلة، ليجد نفسه غير قادر على إزالة مخلفات زيارته للحمام إذا ذهب البطل الأسطورى، تختفى الـ«نحن» وتحل مكانها الـ«أنا» ومعها العجز والخضوع.
أهل السياسة يحبون كرة القدم، تجدهم حاضرون فى كل المناسبات الكروية المهمة، 13 منهم حضروا مباريات كأس العالم 2014، وجلسوا فى المقصورة الرئيسية، وفى المباراة النهائية جلس بوتين بجوار ديلما روسيف، وبرفقة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مثلما جلس من قبل جاك شيراك الرئيس الفرنسى الأسبق، فى مدرجات نهائى كأس العالم 2008.
ألف طريق وطريق يأخذ صناع القرار السياسى فى العالم، وتحديدًا فى مصر إلى حيث مباراة البرازيل وألمانيا، أو مباراة الأرجنتين وألمانيا فى نهاية كأس العالم 2014، ولكن أى طريق عاد منه أهل السياسة فى مصر بعد مشاهدة هذه المباريات أو سماع نتائجها أو متابعة آثار هذه النتائج على الشعوب، وعلى مفهوم كرة القدم، وعلى الخطط المستقبلية لدول كبرى؟
البعض يعود من طريق الاستمتاع بما دار فوق أرض الملعب وكفى، والبعض يعود من طريق استخلاص الدرس المستفاد، واستيعابه والانطلاق فى التفكير والتخطيط من النقطة التى انتهت إليها نتائج مباريات مونديال البرازيل، كثيرون عادوا من نفس الطريق الذى سلكه معلقو المباريات وجمهور الدرجة الثالثة والمحللون فى الاستوديوهات المصرية الذين لم يروا فى كأس العالم سوى تحطيم أرقام قياسية، وقليلون عادوا من طرق أخرى سلكها المراقبون والمحللون الأوروبيون، الذين تناسوا نكسة البرازيل، وصدمة ميسى، وأعلنوا أن مونديال 2014 شهادة وفاة رسمية لفكرة البطل الأوحد، النجم المنقذ، وإعلان ميلاد ورد اعتبار لقيمة العمل الجماعى والتخطيط؟!!
فضيحة البرازيل أمام ألمانيا، وسقوطها بسباعية كروية صهرت بسخونة فكرة النجم الأوحد لصالح العمل الجماعى، لم يعد هناك بطل خارق يمكنه الدفاع والهجوم وإحراز الأهداف، وجاهز لكى يحمل فوق كتفيه آمال زملائه وأحلام جماهيره وأمنيات وطن بأكمله؟!!
فى هذا المونديال، أدرك أهل كرة القدم ما يجب أن يدركه أهل السياسة، لا يوجد فريق يمكنه الاعتماد على لاعب واحد طوال الوقت، كرة القدم لعبة جماعية تحكمها عناصر متعددة، مثل إمكانيات اللاعبين، وقدراتهم ومهاراتهم، وإدارة الدول عمل جماعى تحكمه عناصر عديدة، فى مونديال البرازيل ومن بعده فى عالم كرة القدم أدرك الجميع أن نيمار قادر على تحقيق المكسب وانتزاع الآهات، ولكن البرازيل نفسها غير قادرة على المكسب إن غاب نيمار، وميسى قادر فى برشلونة على إحراز الأهداف حينما يكون ترسًا فى ماكينة تروسها الأخرى أنيستا وسواريز ولكنه عاجز تمامًا عن الحركة وسط ماكينة لا تدور إلا بدورانه، وفى ساحات السياسة توجد شخصيات تمتلك الكاريزما والقدرة على التفكير السليم وتمتلك القوة والمهارة، ولكنها لا تفلح أبدًا فى حمل هموم دولة على كتفيها منفردة دون مساعدة جماعية من شتى الأطراف السياسية المختلفة.. «وأمرهم شورى بينهم» هكذا تستخلصها من المعانى القرآنية، و«إيد لوحدها متصقفش» هكذا تستخلصها من الأمثال الشعبية!!
من تجربة كريستيانو رونالدو، مع البرتغال ونيمار مع البرازيل وميسى مع الأرجنتين، وجيمس رودريجز مع كولومبيا ومن تجربة ألمانيا وهولندا وكوستاريكا مع اللعب الجماعى، وتحرك الفريق كوحدة واحدة، أدرك أهل كرة القدم أن لفكرة النجم الأوحد إيجابيات تخص قدرته على المناورة، ووضع الخصوم فى مأزق خططى وتكتيكى والقدرة على المبادرة وحسم بعض المباريات بأهداف صعبة، ألا ترى فى ذلك تشابهًا مع تجارب الحكم الفردية التى منحت بعض البلاد تقدمًا أوليًا ملحوظًا مثل عبدالناصر فى مصر، وتشافيز فى فنزويلا وتيتو فى يوغسلافيا، ولكن نفس البلاد توقفت عن الحركة تمامًا حينما توقفت قلوب زعمائها عن النبض.
ما سبق ينقلنا إلى الجانب السلبى فى أسطورة النجم الأوحد التى انهارت فى مونديال البرازيل، بعد اكتشاف الجميع أن الفريق الذى يمتلك اللاعب النجم الفردى يصاب بارتباك، كل اللاعبين يبحثون عنه، وكأن الجميع يتعب ويلعب من أجل أن تصل الكرة إليه.. إلى النجم فقط، ومع مرور الوقت والاستمرار بنفس طريقة اللعب يخسر الجميع قدرتهم على الإبداع، ويقفون فى طابور العجزة منتظرين تحرك النجم الأوحد، إن تحرك ربحوا وإن عجز خسروا، كما كان حل المنتخب المصرى فى بطولة الأمم الأفريقية.. الكل فى انتظار تحرك محمد صلاح.
نفس الأمر يمكنك إدراكه بالنظر إلى تجربة عبدالناصر فى مصر وتشافيز فى فنزويلا وتيتو فى يوغسلافيا، وباقى كل الدول التى حملت همومها على كتف فرد واحد أكمل عادلًا أو حتى تحول إلى ديكتاتور مغرور بقوته ونجوميته يعمل تحت وطأة ضغوط الأحلام الجماهيرية المعلقة فى رقبته، وأحلامه هو الشخصية فى مجد وحكم دائمين، دون أن يدرك أن بناء الأوطان لا يتحقق بهدف واحد، ولا بفوز واحد، بل بتأسيس وتشكيل فريق قادر على العطاء لسنوات مستقبلية مقبلة.