يبدو واضحًا أنه منذ أن كان رئيسًا لأركان حرب الجيش الثاني الميداني، أدرك اللواء أركان حرب محمد فرج الشحات، مدير المخابرات الحربية الحالي، صعوبة المهمة الموكلة للقوات المسلحة في التصدي لأوكار الإرهاب، وهو ما بدا واضحًا في كشفه لأول مرة عن حجم الخسائر التى تلقتها الجماعات الإرهابية بعد معركة الرفاعى في الشيخ زويد، تلك العملية التي قصمت ظهر التكفيريين، كما يبدو لنا من فرط الأرقام المذهلة التى أعلنها فى ندوة القوات المسلحة "مجابهة الإرهاب.. إرادة أمة".
الأرقام تكشف ضراوة المواجهة مع تلك العناصر من ناحية، ومن ناحية أخرى توضح حجم المؤامرة التي تم إفسادها، بعدما تم القضاء على 250 هدفًا، "مخازن ومخابئ أسلحة وذخائر - نقاط تجمع – مستلزمات إدارية للدعم اللوجستي"، فضلاً عن "130 عربة و500 من العناصر الإرهابية شديد الخطورة"، وهو الأمر الذي أفقد أعداء الوطن توازنهم، وفي إطار مكافحة الإرهاب وتطهير البيئة المحيطة به وبالأنفاق التي تلعب دورًا رئيسيًا فى دعم تلك العناصر الإرهابية، وهو الأمر الذى دفع القوات المسلحة لاتخاذ إجراءات هندسية فعالة لتدمير العديد من الأنفاق المستخدمة في تهريب السلاح، والتى تمكنت العناصر الإرهابية من تبطين بعضها بالحوائط الخرسانية لمجابهة إغراقها بالمياه، لكن الجيش نجح فى تدمير أجهزة فنية متطورة للتعامل مع تلك الأنفاق وصولاً للأعماق الكبيرة!!
ولعل من أبرز النقاط الرئيسية التي تجسد براعة المخابرات الحربية هى كشفها في اللحظة الراهنة عن 10 شركات تتلقى أموالاً للخدمات في إطار الدعم اللوجستي، تتخفي في صورة شركات سياحة وصرافة كانت تقوم بإيصال شبكات كهربائية تقوم بعمل الدوائر الالكترونية تستخدم في التفجير، وربما كان ذلك هو سر عدم تمكن الشرطة من القضاء كليًا على تلك العصابات التي نشطت في سيناء منذ عام 2006 وظلت تقوى شوكتها حتى أحداث 25 يناير 2011 حيث قدم لهم المعزول مرسي دعمًا أكبر لها عن طريق محمد الظواهري – كما نعلم – والذي هيأ البيئة الملائمة لقدوم مجموعات تكفيرية من بعض الدول العربية مسرح العمليات الإرهابية مثل "سوريا – العراق – ليبيا – اليمن" وذلك بالتنسيق بين "أيمن ومحمد الظواهري" خلال أعوام (2011 - 2012 - 2013) بالتضامن مع عناصر من حماس للسيطرة على الأنفاق وتهريب السلاح والمخدرات وتجارة البشر، لتقوى شوكة التطرف والإرهاب في سيناء بمعدلات تضعف قدرة الجيش والشرطة على المواجهة، ولعلنا هنا نذكر تهديد (محمد البلتاجي) حين قال: "سيتوقف الإرهاب في سيناء حال عودة محمد مرسي إلى الحكم".
لكن لماذا تم الكشف عن حجم الخسائر التي منيت بها الجماعات الإرهابية على لسان اللواء "الشحات" في هذا الوقت بالتحديد؟
الإجابة تسلتزم البحث والتأمل طويلاً في سيرة رجل المهمات المستحيلة اللواء محمد فرج الشحات، منذ أن أصدر له الرئيس السيسي نشرة استثنائية في 17 مارس 2014 بتعيينه قائدًا للجيش الثاني الميداني خلفًا للواء أحمد وصفي، جراء ما يتمتع به من صفات الحزم والانضباط، كما أنه مشهود له بالدهاء وحرفية تحليل المعلومات، والعمل بأقصى درجات السرية، حتى أنهم أطلقوا عليه فى الجيش الثاني "قائد أبناء الصمت"، ناهيك عن حسه الإنساني في الحرص على الإشراف بنفسه على أعمال مدرسة المكفوفين بالإسماعلية، وزيارته المفاجئة للنقيب محمد فؤاد الذي أصيب في حادث الأمن المركزي، والإصرار على حضوره زفافه وتقديم التهنئة للعروسين.
هذه نبذة صغيرة جدًا عن الجانب الشخصي في حياة اللواء الشحات، أما على المستوى التكتيكي، فقد تعامل بحرفية خلال الفترة الماضية من خلال ثلاثة محاور للوصول لنتائج الكشف التي عرضها في تقريره على حضور الندوه التثقيفية:
المحور الأول: الرصد والتتبع الذي مكنه من رصد شبكات الإرهاب وتجفيف كل منابع التمويل، وإحكام السيطرة على المنافذ الخارجية لمصر، ومن ثم أمكنه تأمين الحدود على كل الاتجاهات الاستراتيجية.
المحور الثاني: التخطيط للقيام بحملات ومداهمات بالتعاون مع الشرطة المدنية بالاستعانة بأهالي سيناء الشرفاء في إطار عملية "حق الشهيد".
المحور الثالث: توفير البيئة الصحية الآمنة مع بدء مشروعات التنمية في سيناء للارتقاء بالأوضاع المعيشية لأهالي سيناء بالقضاء على أعمال التطرف والإرهاب.
أظن أن السطور السابقة على شدة تلخيصها، يمكن أن تجيب على السؤال حول الكشف وصاحبه والتوقيت المناسب، لكنَّ سؤالاً حائرًا ظل يطن فى رأسي طوال الأيام الماضية مفاده: "أين دور الإعلام التعبوي في حالة الحرب الحالية على الإرهاب؟.
لم تدرك وسائل الإعلام كافة دلالات كشف اللواء الشحات في هذه اللحظات الفاصلة في عمر الوطن، في وقت انصرفت فيه الخوض باللهو تارة، وتارة أخرى في تجذير عمق الأزمات حول السلع والخدمات التي تساهم في تخفيفها القوات المسلحة بالأساس، في وقت تقدم فيه أكبر عدد من الشهداء في حربها الضروس ضد الإرهاب، ولعلنا نلحظ أن شغل صفحات الصحف والشاشات الليلية الشاغل في نفس التوقيت قد انصب على مباريات كأس الأمم والأهلى والزمالك، وغيرها من قضايا مفتعلة شغلتنا في لحظات لهونا عن الهم الأكبر بالوقوف خلف الجيش في تصديه للخطر الأكبر بتناول سير البطولات.
كان حريًا بالإعلام أن يشغل الصفحات المكدسة بالغثاء، ومساحات الهواء الخاوية من أي جد في حياتنا بحديث الرائد المقاتل "كريم بدر" في الدورة التثقيفية للقوات المسلحة "رقم 24"، فأعمال هذا البطل وزملائه في كمائن الشيخ زويد تتضاءل أمامها أية أعمال أخرى، بل تتوارى خجلاً على خجل وقصورنا في فهم أصول الوطنية، لقد فقد الفارس إحدى ذراعيه وحافظ هو وزملاؤه على كرامة الوطن، ومع ذلك وقف شامخًا على المنصة ليؤدي التحية العسكرية بثبات نادر، ثم يلتقط الميكرفون متحدثا عن يوم الأول من يوليو 2015، حينما كان قائدًا لقوة الدعم مصدرًا كلمته بالقول "كل مقاتل يا فندم مستني اليوم اللي تنادي عليه مصر وتقوله هى دى مهمتك".
يستطرد بطلنا في الحديث عن ذلك اليوم الموافق 14 رمضان والمعروف بـ"معركة الرفاعى" وهو اليوم الذي حاول فيه أعداء الوطن إعلان "ولاية سيناء" حيث وردت المعلومات من بداية اليوم بتحرك العناصر الإرهابية لضرب كمائن الشيخ زويد في وقت واحد، حيث اتفقت قوة الدعم قبل الهجوم على أن يلقوا ربهم شهداء مقابل سقوط أكبر عدد من الإرهابين، وهنا لابد أن يرتجف قلبك وينتابك شعور بالقشعريرة على ذكره "كريم" لمآثر وبطولة زميله البطل الملازم أول "محمد عبده" الذي يقود الدبابة M60 في بداية التحرك، ومعه الملازم أول حسين السيد، مؤكدًا أن دعم المولى عز وجل كان حليفًا لهم من أول لحظة، فعلى الرغم من طول الطريق المؤدي للكمائن، إلا أننا سلكناه في زمن قياسي وبدا أقصر لنا مما سبق في أثناء التدريب، وعلى الفور تم التعامل مع تلك العناصر الإجرامية بكل أنواع الذخيرة لتصفية الأفراد وتدمير عربات الدفع الرباعي، حتى صارت ساحة المعركة مسخنة باللهيب وتناثر أشلاء الجثث.
في تلك اللحظة - يضيف كريم - سمعنا صوت الـ(الرشاش 14.5ملي) السلاح الرئيسي المحمل على عربات الدفع الرباعي للعناصر الإرهابية يصوب نحونا من كل اتجاه، وكان المفاجأة وجود مجموعات أخرى في منطقة الرفاعي، حينئذ أدركنا أن مهمتنا ليست فقط دعم الكمائن، بل القضاء على المجموعات والعناصر الإرهابية الموجودة بمنطقة الرفاعي بكاملها، وبالفعل توجهنا نحوهم فاتحين التشكيل لنصيبهم بطريقة مباشرة، وحين حاولوا التجمع بالقرب من بعضهم البعض عنت لنا فرصة تحقيق خسائر أكبر في صفوفهم، وبالفعل تم تصفية أعداد كبيرة لتضيق المسافة بيننا وبينهم، ونشاهد جثث عدد أكبر من قتلاهم، حيئذا شعرت بأن نصر الله أكبر في هذا اليوم، وبدأ أبطالنا يقدمون لهم دروسًا في فرق العقيدة بيننا وبينهم، ذلك الفرق الذي يمنعهم من رفع سلاحهم في وجوهنا لأن رصاصنا كان يصيبهم بشكل أسرع، وفي لحظة نوارنية يحكي "كريم" كيف خرج البطل "محمد عبده" من فتحة الدبابة بحماس وإرادة حديدية نحو تحقيق حلم الشهادة وبدأ يواجههم رجل لرجل، والإيقاع بأكبر عدد منهم، ورغم إشارته لي بالإصابة إلا أنه رفض الانسحاب، واستكمل أسطورته البطولية حتى أصابته دانة من آر بي جيه لتصعد روحه إلى السماء شهيدًا.
ثم يحكي "كريم" قصة الشهيد الملازم أول "حسين السيد" الذي تسلم مكان زميله "محمد"، والجندي "كيرلس" الذي رفع رشاشه المتعدد موجهًا نحو عربة اقتربت منا ليصفي كل أفرادها، ويواصل حديثه البطولى الشيق في لحظات المواجهة حتى جاءته هدية الله - كما جاء على لسانه - في صورة دانة آر بي جيه لتفصل يده اليسرى عن جسده، وتسبب له غصة في الحلق جعلته يشعر بالمرارة لأنه لا يستطيع إكمال المهمة، لكنه تغلب على ألمه مستعينًا بيده اليمنى حاملاً سلاحه الآلي بجسارة، مستكملاً المهمة حتى النهاية، ورغم أن فلولهم ركزوا التصويب عليه وحده رفض إجلاءه من قبل زملائه على حالته تلك لأنه جندي في جيش مصر الذي لابد أن توهب له الأرواح والدماء حفاظًا على التراب المقدس.
كلمات البطل "كريم بدر" عن زميله الشهيد محمد عبده الذي لم تكن أمه تتوقع أن يكون بهذه الملائكية والطيبة التي هى من صفات أهل الجنة - على حد قولها - مؤكدة أنه نال حلم الشهادة الذي كان يتمناه في آخر زيارة لها، حيث قال لها جملته الأخيرة قبل عودته للجبهة "لو معملناش كده ياما حتلاقيهم تحت بيتك"، ومشاهد أخرى لبطولات الجيش كفيلة للطم وجه الإعلام المصري، الذي يثبت تخاذله اليومي ممارسات اللهو، البعد عن الواقع الحقيقي، حيث يسطر أبناء البسطاء بطولات أسطورية تخجلنا في معنى الفداء للوطن.