بادرت أبى يومًا ودون أى تمهيد بسؤال كان يشغلنى.. هى السيدة بعيدة عن سيدنا الحسين؟
- بتسألى ليه؟
- كانت الإجابة التى أتوقعها تمامًا.. حاولت أن أخفى ضيقى وكررت سؤالي.. يعنى بعيدة ولا مش بعيدة؟
- تقصدى أى سيدة.. السيدة عائشة ولا السيدة زينب؟
- تحول ضيقى من الإجابة الأولى إلى استنكار للإجابة الثانية.. فلم أكن أعرف أى سيدة يقصدها الرجل.. فقررت البوح بالسر الكبير وراء هذا السؤال فقلت: معرفش الراجل بيقول إنه ساكن فى السيدة وبيروح الحسين مشى كل يوم مرتين.. وتساءلت للمرة الثالثة المسافة بينهما بعيدة ولا قريبة؟
- ضحك أبى وقال لى راجل مين.. عبد المطلب!! تبقى السيدة زينب لا مش بعيدة "فركة كعب".. وانتهى الحوار
ولم أستوعب وقتها "فركة الكعب" هذه تساوى كم من الوقت والمجهود.. لكن محبتى لعبد المطلب بدأت من حيث هذه المسافة الفاصلة بين السيدة وسيدنا الحسين، إعجاب بصوت لا أعرف ملامح صاحبه، لأن التليفزيون كان يعرض الأغنية على صور لمسجد السيدة والمشهد الحسينى.. ولا أعرف سببًا جعلنى أحمل هذا اليقين أن عبد المطلب كان يذهب ماشيًا ليرى حبيبته، وشكلت الأغنية لى حالة حب واقعية تمامًا لا يتغنى فيها المطرب بالصعود للقمر من أجل حبيبته.. وهل هناك واقعًا شعبيًا أقرب من السيدة زينب وسيدنا الحسين، وزاد من إعجابى اعتقادى أن صاحب هذا الصوت البديع ساكن جنبنا فى السيدة زينب، فالمشاهير والنجوم لا يسكنون الأحياء الشعبية مثلنا، ولم أعرف وقتها أن مؤلف الأغنية الشاعر زين العابدين عبد الله هو الذى يسكن حى السيدة وليس عبد المطلب نفسه.. وصاحب الفضل فى غناء عبد المطلب هذه الأغنية هو نبيل ابن الفنان محمد فوزى لأنه أخذ رأيه فى الأغنية بعد أن انتهى من تلحينها، فقال له أن الأغنية لا تليق إلا على "طِلب".
1910 ولدت الفنانة أمينة رزق بطنطا ومحمود المليجى بالقاهرة وفريد الأطرش بسوريا ومحمد عبد المطلب بالبحيرة، كان عامًا حافلاً للفن المصرى، وبدأت هداياه فى الظهور على الساحة الفنية بعدها بسنوات عندما قرر محمد عبد المطلب فى منتصف العشرينيات الذهاب إلى القاهرة بصحبة أخيه الأكبر وعهد إليه بإقناع والده أن محمد سيلتحق بمدرسة بالقاهرة لإتمام تعليمه، لكن محمد وأخيه كانا قررا أمرا آخر، فموهبة عبد المطلب الغنائية وصوته المميز دفعته أن يجرب حظه فى القاهرة، فعمل فى صالة بديعة مصابنى، وانضم كورس فى تخت محمد عبد الوهاب، وتتلمذ على يد الملحن الكبير داوود حسنى فقال عبد المطلب عنه: هو اللى علمنى الغناء اللى بغنيه دلوقتى.. وجعلنى أرفع أذان الفجر فى مسجد بالتوفيقية لمدة عام، فزادت قوة صوتى".
محمد عبد المطلب ابن البلد بحاجبيه الجامدين ووجهه الخالى من أى تعبير لا يلهمك بأنه أحسن مطرب شعبى.. هكذا وصف أنيس منصور موهبة عبد المطلب الفنية فوضعه على رأس الغناء الشعبى فى مصر.. ولولا جهود الملحن الكبير محمود الشريف فى إثناء عبد المطلب عن قرار الاعتزال لحُرم الغناء الشعبى من ذلك الصوت، فبعد خسارة عبد المطلب "تحويشة العمر" فى إنتاج فيلمه الصيت ولا الغنى سنة 1948 الذى لم يحقق أى نجاح يذكر، قرر "طِلب" اعتزال الفن، وتوالت بعد عودته عشرات الأغنيات الناجحة التى خلدت اسم عبد المطلب ملكًا للأغنية الشعبية حتى الآن، فتعاون عبد المطلب مع أغلب ملحنى عصره على رأسهم بالطبع الثنائى الناجح بينه وبين محمود الشريف صاحب ألحان "ودع هواك" و"اسأل مرة عليا" و"بتسألينى بحبك ليه" ومن ألحان رياض السنباطى أغنية "شفت حبيبى" وقال عبد المطلب عن التعاون بينهما، أنه لا ينسى جميل رياض السنباطى لأنه أعطاه هذا اللحن دون مقابل وقاله يسعدنى أنك تغنى الغنوة دى، فالملحنون الكبار كانوا يقدرون خامة صوت عبد المطلب ويسعدون بالعمل معه فلحن له محمد عبد الوهاب ومحمد فوزى وكمال الطويل وبليغ حمدى.
فتوة صوت عبد المطلب سر تفرده، وأسلوبه الطربى المميز فى الأداء يجعل صوته متسيدًا المشهد الغنائى، لا ينافسه فى تلك الحالة إلا السيدة أم كلثوم، فصوت عبد المطلب يحول الموسيقى إلى خلفية تناسب فى هدوء خلف صوته ليكتمل بها المشهد الغنائى، بينما كثير من المطربين تسير الموسيقى بجانب أصواتهم، والبعض الآخر تنافسه الموسيقى فتقود المشهد الغنائى وتهزم الصوت فيتحول إلى خلفية هادئة لموسيقى صاخبة.
"بقول لك إيه، أنا مش هقدر أبيع اتنين عبد المطلب، لو تقدر تكون محمد رشدى أهلا وسهلا وسأقف بجوارك وبعدين بطل تتنك وتتأفف زيه، كفاية عندنا واحد منه".. نصيحة غاضبة من موسيقار الإذاعة حسن الشجاعى ألقاها فى وجه الفنان محمد رشدى، لأن إعجاب رشدى الشديد بعبد المطلب أسقطه فى فخ تقليد طريقة "طِلب" فى الغناء، فهدده الشجاعى أنه لن يقبل إلا عبد المطلب واحد فى الإذاعة.
نصيحة الشجاعى أوضحت جزءًا من الانطباع السائد عن عبد المطلب، ولدى واحد من أهم موسيقيين عصره الملحن حسن الشجاعى، فعبد المطلب مثل الأغنية الشعبية بأرستقراطية أولاد الذوات، فنجد الفنان محمد رشدى يقول عنه: كانت بتبهرنى شياكته، ورغم أنه ابن قرية ولما جاء إلى القاهرة عاش فترات صعبة، إلا أن تصرفاته كانت تصرفات برنس، وملابسه ملابس برنس وكان بيغسل إيديه بالكولونيا.
اعتزاز عبد المطلب بنفسه، واضح كموهبته فهو يدرك حجم قدراته الفنية جيدا فعندما سئل فى حوار إذاعى
- أحلى مقام أنت بتتسلطن فيه أيه؟
- أنا أعشق البياتى، مقام شرقى جميل وسلس.
- ده المقام اللى بتسلك فيه يعنى؟
- فرد عبد المطلب رحمة الله عليه: أنا بسلك فى أى حاجة