يقينا لا تمتلك عاصمة فى العالم ما تمتلكه القاهرة من مناطق تاريخية وشوارع تذخر بالتراث المبهر، ورغم ذلك أدعى أنه لم تهمل عاصمة فى العالم مثلما أهملت القاهرة حتى كساها التراب وفقدت بريقها، وضاع جمالها وشابت مبانيها وتصدعت جدرانها، ولأن كثيرا من محاولات الإنقاذ لتلك العاصمة على مدار العقود الماضية غلبت عليها "الفهلوة" الهندسية والفنية، فقد ظهرت القاهرة بكل ما تحتضنه شوارعها وأحيائها من تاريخ وكأنها عجوز تتصابى.
وكان القرار الذى أصدره الرئيس السيسي منذ شهرين تقريبا بتشكيل لجنة خاصة بالقاهرة التراثية تضم متخصصين فى الهندسة والتخطيط والفن المعمارى، بجانب مسئولى التنسيق الحضارى وبرئاسة المهندس إبراهيم محلب بخبرته الهندسية وثقافته وهمته العملية، بداية لمحاولة جديدة من الإنقاذ للعاصمة لكنها هذه المرة مبنية على أسس علمية، فلا عجلة فى الأمر ولا رغبة فى "الشو" يمكن أن يصل بنا إلى تكرار محاولات "الطلسأة" السابقة.
أسعدنى الحظ بحضور اجتماع للجنة كى أتأكد أن الأمر هذه المرة بالفعل مختلف، وأن المطلوب ليس دهانا لواجهات العمارات ولا تزويق للشوارع، وإنما إحياء حقيقى لتاريخ هذه العاصمة، بحث جاد عن روح القاهرة التاريخية، وتحويلها من عنوان للزحام والعشوائية والفوضى والقبح أحيانا فى بعض مناطقها إلى نموذج للجمال والرقى، اختيار دقيق للمناطق التى سيبدأ منها العمل، وحسنا فعلت اللجنة عندما وقع اختيارها على أن تكون البداية من شارع الألفى الذى يتوسط قلب القاهرة، ففيه من مقومات الجمال ما يكفى ليكون الانطلاقة فى بعث القاهرة الخديوية التى نقرأ عنها فى كتب التاريخ، ونراها فى بعض الصور واللوحات ونتحسر على فقدانها وسط ركام الباعة الجائلين وكراكيب سطوح العمارات ولوحات الإعلانات المشوهة، تحاول اللجنة أن تستلهم روح العواصم التاريخية من تجارب أخرى فى العالم دون أن يكون البعث القاهرى مسخا أو نقل مسطرة من مدن أخرى لا فيها روح مصر ولا تاريخ القاهرة ولا طبيعة شعبها.
عزم اللجنة واضح على أن تبحث وتستعين بكل من يمتلك مهارة أو إبداعا يمكن أن يفيد، ليكون شارع الألفى بداية مشوار العودة إلى التاريخ وليشاهد كل المصريين وزوار القاهرة من الداخل أو الخارج شارع الألفى بصورته التراثية الراقية فى شهر رمضان المقبل على الأكثر، وسيقرأ رواد هذا الشارع بعد شهور قليلة تاريخه ويشاهدون صور الماضى الجميل على جدرانه ووسط ممشاة من خلال لوحات ستصمم بأسلوب فنى راق، وتوضع فى أماكن مختارة بعناية دون أى إزعاج بصرى، وبمثل هذا النمط ستحكى الشوارع القاهرية واحدا تلو الآخر تاريخها بنفسها وستنادى زوارها لتعود البسمة إلى مبانيها وتختفى الكآبة منها.
ما تفعله لجنة القاهرة التراثية مشروع قد لا يدرك البعض أهميته، وقد يعتبره آخرون رفاهية، لكنه بحق إن تحقق كما تابعت من مناقشات وما تم طرحه من أفكار يرقى بعضها إلى مرحلة الأحلام الجميلة، فسوف يكون لدينا ما نفخر به بدلا من أن نتباهى بزياراتنا للشانزليزيه فى باريس أو ماريا هلفر فى فيينا أو الميدان الكبير أو القصر العدلى ببروكسل.
وستبقى مشكلة القاهرة التاريخية فقط سلوكيات بعض من يسيئون لمصر من أرزقية ومتحرشين وشباب لا يدركون مسئوليتهم تجاه بلدهم، فهؤلاء بتصرفاتهم يمكن أن يفسدوا جمال الصورة، صحيح أن مخطط إحياء القاهرة الخديوية تنبه لهذه المشكلة ويحاول مواجهتها بالتواجد الأمنى المكثف، لكنى أعتقد أن دور الإعلام سيكون أهم فى تصويب بعض السلوكيات المسيئة، وإظهار أهمية أن يكون هذا المشروع بداية نقدم من خلالها للعالم كله صورة جديدة للمصرى بتحضره ورقيه وثقافته، ويكون هذا من خلال دعم أبناء هذه المناطق التاريخية لعمل اللجنة وعدم وضع المعوقات أمامها، وكذلك من خلال تغيير بعض السلوكيات المسيئة.