منذ كتابتى لمقال «أين مصر من آثارها فى السودان؟»، وأنا أتعرض لحالة مفزعة من الهجوم السودانى وصل كما ذكرت أمس إلى حد التهديد بالقتل، وفى الحقيقة فإننى لم أكن أعرف أن هذا المقال سيثير كل هذه الحساسية، فهل من المطلوب أن نحرِّم على أنفسنا ذكر اسم بلادنا كى لا يتهمنا أحد بالشوفونية؟ وهل من المطلوب أن نرى الآثار «فرعونية» بالهوى والهوية ونكذب أنفسنا ووعينا وأعيننا، ليرضى عنا الإخوة فى السودان؟
ولكى لا يساء فهم كلامى للمرة الثانية فإنى لا أريد منازعة الإخوة فى السودان فى ملكية هذه الآثار، فهذا أمر غير منطقى وغير عادل فضلا عن كونه غير قانونى، فهذه الآثار ليست «مصرية» بالملكية، ولكنها مصرية بـ»الهوية» منذ أن أنشأها الفرعون العظيم تحوتمس الثالث قبل 1500 عام قبل الميلاد، وكان يعين حكامها ويرسم سياستها باعتبارها من مناطق نفوذه، ويظل الفراعنة من بعده يعينون حكام السودان لمدة خمس قرون، حتى حكم مصر أحدهم وهو الفرعون «بعنخى»، وكان أول ما فعله هو التبرك بمياه الكرنك المقدسة والاستحمام فى النيل وأداء القرابين إلى آلهة مصر القديمة، وهو أمر ثابت فى تاريخ مصر وجزء منها لا ينكره أحد ولا يجحده أحد، فقد كنا كما ذكرت وأكدت بلدا واحدا شاء من شاء وأبى من أبى.
كانت مصر تتبع دولة الخلافة الإسلامية، وحينما ندرس تاريخها فإننا نعرف أننا ندرس تاريخ «إسلامى فى مصر» ولم يقل أحد مثلا: «تاريخ فسطاطى» نسبة إلى الفسطاس أو تاريخ «قطائعى» نسبة لمدينة القطائع التى أسسها الطولونيون، وكانت مصر أيضا تتبع الدولة العثمانية وحينما ندرس آثارها نقول «آثار عثمانية فى مصر» فلماذا يتكبر الإخوة فى السودان عن ذكر هذه الحقائق؟ ولماذا يخاصمون العلم والموضوعية ملقين كل هذه الاتهامات على من يذكر الحقائق، ويدعون أنها «حضارة مروية» وليست حضارة «مصرية» أو فرعونية؟
حضارة مروى المزعومة هى حضارة مصرية خالصة، أسسها فرعون مصر ودانت له بالولاء قرونا وبالانتماء قرونا أخرى، كل ما فيها مصرى، فنها ودينها وسياستها، والتاريخ الرابط بيننا يستحيل إنكاره، وفى الحقيقة فإنى لا أفهم هذا التنصل المعيب من الحضارة المصرية عند الأخوة فى السودان، فى حين أن الفخر بهم أولى، تماما كما يفخر أهل مصر بالانتماء إلى الحضارة الإسلامية وتأسيس الحضارة الهيلينية، والاستفادة من جميع الإسهامات الحضارية فى كل مكان فى العالم، وأولا وأخيرا هذا تاريخنا المشترك، فاجعلوه لنا لا علينا.