بعيدا عن الشرر المتطاير عبر الأثير المشحون بالغضب ، والصحف الملطخة بسوداوية الأحداث السياسية فى تجلياتها المرعبة ، استمتعت بقراءة كتاب "الدنجوان .. أسطورة الأبيض والأسود" للكاتب الصحفى الفنى المحترف أحمد السماحى ، والذى استعرض من خلاله بحس أدبى رفيع، وبلغة تجمع بين الرشاقة والخيال الذى يجنح نحو الحقيقة حتى ولو كانت بطعم مر، غاص فى حياة هذا النجم الذى حظى بشخصية البطل ساحر النساء والرجال، وعاش فى القلوب لأكثر من نصف قرن حيا وميتا، وتميز بكاريزما لم تتوفر لكثيرين من أبناء جيله، لكن الصدمة الكبرى لى ولمن قرأ هذا الكتاب أن "رشدى أباظة" على كل تلك الشهرة لم يحظ بأى نوع من التكريم، أو رصد لسيرته فى كتاب حتى الآن، رغم براعته فى تأدية وتجسيد مختلف الشخصيات بداية من دور ابن البلد إلى ابن الذوات الوسيم ؟.
السماحى فى رحلته عبر (300 صفحة) من المتعة الفائقة، أكد لنا بما لايدع مجالا للشك، أن "الدنجوان" الذى عاش حياة تعيشة يشوبها قدر كبير من التناقض، جراء ولادته فى المنصورة "عروس الدلتا" لأب مصرى "شرقاوى" يتسم بالصرامة الشديدة بحكم تكوينه كضابط شرطة، وأم إيطالية تتمتع بقدر هائل من الحرية التى أربكت عقل رشدى فى طفولته وصباه، لم يكن فى الواقع نجما كأى نجم، بل هو"دونجوان الشاشة العربية" ، وفتاها الأول المتوج على عرشها لأكثر من 25 عاماً " نصف عمره تقريبا "، إنه حقا " أسطورة الأبيض والأسود "، ذلك الذئب الأنيق الذى يخفى أنيابه فى ابتسامة رومانسية ناعمة تخطف القلوب، وهو نفسه الذى كان عندما يتكلم أو يهمس بصوته وسرعة نطقه للكلمات يلهب قلوب عشاقه بسحر خاص، آخاذ يقود الحيارى فى الحب والغرام إلى آفاق رحبة من الخيال .
وفى هذا الصدد فقد كشفت دراسة ألمانية حديثة تؤكد صدق "السماحى" فى تحليله لشخصية رشدى، بأن اللهجة التى يتكلم بها الرجل وسرعة نطقه للكلمات يؤثران فى سرعة انجذاب المرأة للرجل، كما أن الرجال ينجذبون لصوت المرأة التى تظهر شبابها بممارسة الرياضة، وأن الأصوات البطيئة غير جذابة بالنسبة للجنسين، وعلى جانب آخر أظهر بحث ألمانى أيضا: أن الصوت العميق للرجل ليس بالضرورة هو الشىء الذى يجذب المرأة للرجل، بل على عهدة خبيرة فى علم الصوتيات فإن اللهجة التى يتكلم بها الرجل وسرعة نطق الكلمات تؤثر فى سرعة انجذاب المرأة للرجل.
ولأن المؤلف التزم الشفافية الكاملة فى عرض وتحليل قصة حياة "الدنجوان" بحلوها ومره، وتلك موضوعية تحسب له ككاتب سيرة، فقد أثبت أنه رغم سحر صوته فلم تكن وسامة "رشدى أباظة" وجمال ملامحه ولا خفة ظله فحسب هى صانعة تلك الأسطورة فى زمن كان يحفل بالمواهب والعظماء فى تاريخ الفن السابع، وإنما كان بمثابة رجولة متكاملة وجمال غض فى كل تفصيلة، حسب وصف عشاقه الذين مازالوا فى ازدياد يوما تلو الآخر، وربما يعود ذلك إلى جذوره الأولى بحكم انتمائه لأسرة عريقة فى تاريخها ، هى الأسرة " الأباظية " التى يرجع أصلها إلى بلاد القوقاز، فضلا عن مصادفة ولادته فى مدينة "المنصورة" التى يسكنها - كما نعرف جميعا - جمال فطرى نابع من طينة أرضها الخصبة وزرقة سمائها الصافية.
37 عاما مضت على رحيله ( 27 يوليو 1980م )، ولم ينل أى نوع من التكريم أو حتى رصد سيرته فى كتاب يليق بقامته الفنية وشخصيتها الكاريزمية، اللهم إلا ما قامت به " مجلة الأهرام العربي" منذ 15 عاما تقريبا، عندما نشرت قصة حياته كاملة فى حلقات، كما لملم أوراقها المتناثرة ورواها شقيقه المرحوم فكرى أباظة، وكتبها أحمد السماحي، وها هى الآن تصدر فى كتابه الأول فى يناير 2017، ورغم أن نفس الحلقات تعرضت للسطو عليها فى عز النهار - دون أدنى مراعاة لحق المؤلف - عبر محاولات جاهدة لتدويرها فى مسلسل درامى مازال مصيره معلقا أو مجهولا بين الورثة وكاتب السيرة وجهة الإنتاج ، إلا أن سيرة رشدى لم تفقد طزاجتها عندما صدرت منذ أيام فى كتاب "الدنجوان .. أسطورة الأبيض والأسود".
وأعود لصدمة التجاهل ونسيان تكريم رشدى أباظة، وبعيدا عن نظرية المؤامرة التى تحكم معايير كثيرة فى حياتنا الحالية ، نطرح سؤالا آخر : هل يمكن أن يكون هناك نوع من التجاهل أوالنسيان المتعمد فى هذا الأمر؟
هنا أستشعر بعضا من بواعث الغيرة العالقة فى نفس كل من يرون فى "الدنجوان" تهديدا لعرش نجوميتهم ، خاصة أن مهرجان القاهرة السينمائى يمر علينا عاما تلو الآخر، ولا أحد يكلف نفسه مشقة البحث فى أرشيف المهرجانات السابقة كى يكتشف تلك الحقيقة المعيبة فى حق القائمين على صناعة هذه التظاهرات الاحتفالية والاحتفائية التى لاتعير أى اهتمام يذكر لمشاعر جماهير ماتزال ترى فى رشدى الرمز والأيقونة والحلم .. حلم الرجولة فى زمن تسوده العشوائية والتغريب، وفى وقت يعجز فيه نجوم كثر عن امتلاك طيف – ولو بسيط - من سمات ووسامة ونجومية شبح - رشدى – الذى مازال يطل برأسه من تحت التراب على ألسنة الناس مهددا عرش نجوميتهم الزائفة .
"السماحى" وبما لايدع مجال للشك أكد بكتابه الذى جمع كل شاردة وواردة عن "الدنجوان" ووثق لكل أعماله واستوفى شروط كتابة السيرة الواقعية للشخصية، وأضاف رأى الطب النفسى فيه، وكذا بعضا من مقالات متناثرة حوله، ولعل أبرزها مقدمة الكتاب بقلم الراحل العظيم "نور الشريف"، أن أرشيف السينما المصرية كله وليس مهرجان السينما وحده قد أصابه العطب تارة، أو جراء إهمال " عمدى " تارة أخرى ، ناهيك عن اللامبالاة و عدم اكتراث المعنيين بالحفاظ على التراث والأصالة فى هذا الفن المرئى النابض بالحيوية، وهو فى طريقه الآن للاندثار ، وهذا يؤشر لحالة من المأساوية وتحول هذه الملهاة العبثية إلى مأساة حقيقية على أثر ضياع ذاكرة مصر السينمائية، فى ظل سيادة أخلاق الزحمة، وترسيخ مبادئ ومفاهيم الاحتكار للفن، ذلك الكابوس الذى أصبح جاثما على أنفاسنا مثل طائر الرخ الأسطوري، وبأساليب ملتوية نجح فى " عملية الاختراق " عبر وسائل شيطانية مهدت لنهب والتهام مابقى من تراثنا، بينما الجمع الغفير فى غيبة من الوعى ، وهو ما عبد الطريق لحفنة من خفافيش النهب العام لبيع ضمائرهم لمصلحة شركة خاصة ،أو دولة بعينها مستغلة حالة الاستسلام اللذيذ للحالة وسيادة عصر السوق.
والسؤال البديهى فى تلك اللحظة : هل سنظل طويلا فى ثبات أو نوم عميق غير مبالين بضياع أو تجريف حتى أجمل ما فينا؟
لقد أثبت الكاتب الصحفى أحمد السماحي، أن رشدى أباظة لم يكن شخصية ثرية فحسب، بل كان حكاية فنية جميلة وعذبة تستحق الاهتمام بفنان كان شديد الاعتزاز بكرامته، يفخر بثقافته وتفوقه الاجتماعى والفنى معا، وهو ما مكنه من أن يدخل السعادة على الجميع ممن توجوه مكرما على منصات قلوبهم التى أحبته وعشقت فنه حيا وميتا، ومع ذلك فكل الشواهد تدل على أنه لم يشبع من الحياة، كما أن الحياة لم تشبع منه رغم ما قدمه من أدوار وشخصيات تختلف فى أشكالها وألوانها منها: الوسيم خفيف الظل مراد... فى " الزوجة 13" ، المراكبى مجاهد... فى " صراع فى النيل" ، حسين باشا شاكر... فى "شيء فى صدري" ، المستهتر صابر الرحيمي.. فى " الطريق" ، زعيم العصابة عصمت كاظم... فى " الرجل الثاني" ، المناضل السياسى حمزة... فى "لا وقت للحب " ، الميكانيكى الطيب صابر... فى " امرأة فى الطريق " ، الغجرى الشرس حسن... فى " تمر حنة " ، الجنرال الفرنسى بيجار... فى " جميلة بوحريد " ، القائد المملوكى بيبرس... فى " واإسلاماه " ، العاشق الرومانسى مدحت... فى "الحب الضائع " ، ضابط المباحث أحمد عزت... فى " جريمة فى الحى الهادى " .. وغيرها من شخصيات أخرى تعد علامات بارزة رسخت اسمه فى بطولة 150 فيلما - بحسب السماحى - من أجمل أفلام السينما المصرية .
إنه بحق " أسطورة الأبيض والأسود " الذى اختلطت حياته الشخصية بأدواره على الشاشة فتحول أمام الجمهور إلى عاشق نبيل.. رومانسي، عنيف.. فتعلقت به قلوب النساء وأحبه الكبار والصغار على السواء .. وعندما رحل يوم27 يوليو 1980 كان فى وداعه أكثر من 200 ألف مواطن مصري، وهو ما اضطر رجال الأمن إلى التدخل لمنع التكدس وزيادة التجمهر من حوله ، حتى تتمكن السيارة التى يرقد بداخلها من الوصول بأمان إلى مسواه الأخير.. فى طريق الخلود.. والبقاء فى قلوب الجماهير ، ولعل ذلك كان ومازال أهم .. بل وأبقى من أى تكريم للدنجوان.. الحاضر المنسي!.