استوقفنى كثيرا السادة اعضاء الحكومة المستمر الموجة لموظفى الدولة " أجوركم مقابل تقديم خدمة جيدة" وحيث انى كنا قد أكدنا من قبل في مقالات سابقة ، أن النفقات الحقيقية للدولة لها أثر مباشر ينصرف إلى زيادة الانتاج القومي ، وبالتالي فهى تساهم في تعديل التوزيع الأولى للدخول. ولكن لا يصح أن يفهم من ذلك أن هذا النوع من الانفاق العام لا يؤثر أيضاً في إعادة توزيع الدخل القومي.
ويمكن أن نرد أثر هذا النوع من النفقات في اعادة توزيع الدخل الى ؛ أولاً : تدخل اعادة التوزيع في تحديد الأجور والمرتبات ، وتوزيع هذه الأجور والمرتبات قد يتعدى عملية تكوين الدخول ويمتد الى عملية اعادة توزيعها ( خاصة في القطاع العام والقطاع الخاص الموثق بعقود ) ويحدث ذلك حينما تتعدى الدخول الموزعة مقابل الخدمات أو العمل قيمة الخدمات أو الأعمال , وبذلك يمكن القول أن هذه الدخول ( أجور ومرتبات ) تشتمل في الحقيقة على نفقات تحويلية من الدولة ، ما كان يجب أن توزع هكذا. ولا شك أن هذا القول يتطلب منا معرفة قيمة هذه الخدمات في السوقية ، وهو أمر عسير وذلك نظراً لأن القيمة السوقية يمكن أن تتأثر ولا شك لتقدير السلطة العامة لهذه الأجور والمرتبات . وبذلك قد يكون من المستحسن ، حتى مع التسليم بشمول هذه النفقات الحقيقية على قدر من النفقات التحويلية ، أن ندخل أثر هذه النفقات في نطاق التوزيع الأولى للدخل ، وهو الأمر الذي ما كان يجب أن يحدث ، لأن به اهدار للمال العام وعدم وجود شفافية واضحة في توزيع الدخول الأولى سواء كانت من مرتبات أو أجور.
غير أن مثل هذا المسلك لا يصح أن ينسحب على الاعانات التي تقدمها الدولة للموظفين والعمال (خاصة متوسطي ومتواضعي الدخل ) أو مقابل الغلاء في المعيشة لجموع الشعب .
ثانيا، ولا شك في ان النفقات الاجتماعية التي تؤدي الى خلق خدمات توزع بالمجان أو بأثمان اجتناعية تقل عن نفقة الانتاج ، ومثلها الخدمات التعليمية والثقافية والطبية ، وهي نفقات حقيقية أيضاً- تؤدي الى زيادة الدخول الحقيقية ( الأجور والمرتبات ) للمستفيدين من هذه الخدمات. ومعنى ذلك أن هذه النفقات تمارس ، بالاضافة الى تأثيرها في رفع الأجور والمرتبات من خلال تأثيرها في التوزيع الأولى بما تخلق من الدخول ابتداءً ، تؤثر أيضاً على اعادة التوزيع في صالح بعض الأجور والمرتبات انتهاءً. وقد أدى هذا الأثر السابق الذكر الذي تمارسه " النفقات المنتجة " في اعادة توزيع الدخول ( أجور ومرتبات ) الى استخدام تعبير " النفقات التحويلية " للدلالة على النفقات التي تعيد توزيع الدخل القومي في صالح طبقة على حساب طبقة أخرى ، والأرجح هنا في النظرة أن تكون في صالح الطبقات الفقيرة ، إلا أن التطبيق في مصر حتى الآن لا يدل على ذلك بنسبة واضحة.
ثالثاً ، نجد أنه من المؤكد أن النفقات الحقيقية في مصر ، والتي تعتبر ضرورية للانتاج القومي ، تعيد توزيع الدخل القومي في صالح المنتجين ، على حساب اصحاب الدخول المتوسطة والفقيرة من القطاعين العام والخاص ، إذا ما تمت بطريقة غير واضحة ومباشرة . ومثل ذلك الآن في مصر النفقات على الدفاع أو على الطرق والكباري أو على التعليم والصحة العامة . فمثل هذه النفقات السابقة تؤدي الى زيادة المقدرة الانتاجية للإقتصاد القومي حقاً وصدقاً ، إلا أن أثرها المباشر في الفترة القصيرة على مستوى دخول الفقراء ليس بالكثير ، وعليه يجب على الدولة أن تراعى ذلك حتى تصل الى نقطة التوازن بين زيادة الناتج القومي في الفترة المتوسطة والطويلة ، مع مراعاة حقوق الطبقات المتوسطة والفقيرة في الفترة القصيرة ، حتى يتسنى أن تتحقق التنمية الاقتصادية في إطار السلام الاجتماعي ، لا الصراع الطبقي. فلا تحدثني عن الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور و المرتبات ، والقوانين الضامنة لذلك قبل أن تضبطه منظومة النفقات النفقات العامة للدولة حتى تصل تلك النفقات بكل أنواعها الى من يستحقها ، وليس إلى من يستغلها لتحقيق ثروات طائلة على حساب الشعب.
• استاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة