منذ لحظة أن أصدر القاضى حكمه ببراءة مبارك.. سادت حالة من الفتنة والتباين المجتمعى.. لا يعرفها المصريون إلا مع بزوغ هذا الملف من فترة لأخرى.. فقد انقسم الناس فى ردة فعلتهم على الحكم.. فهناك من يرى أن مبارك ماضٍ يجب أن ينقشع لنمضى فى طريق المستقبل.. وهناك من أصيب بصدمة أن الحكم ما هو إلا إعلان عن المسمار الأخير فى نعش ثورة 25 يناير.. وما بين هذا وذاك.. يبقى أننا جميعًا يجب أن ندرك.. بأن مبارك قد حصل على براءة قضائية، من واقع الأوراق المتاحة، فى قضية قتل المتظاهرين.. لكن ستبقى إدانة التاريخ تلاحق سيرته السياسية على مدى السنين.
قبل أى شىء.. يجب أن نقف على المغزى من وراء محاكمة مبارك.. فليس الغرض هو الانتقام من شخصه أو حتى إذلاله.. ردًا على من يتبنى مقولة «ارحموا عزيز قوم ذل».. وإنما فلسفة محاكمته تكمن فى إرساء مبادئ العدالة المجتمعية والقصاص العادل للشهداء.. فحتى يوم 31 يناير 2011م كان قد سقط المئات من الشهداء والمصابين.. بجانب ما سبق ذلك من جرائم فساد سياسى ومالى شاب لها رأس الولدان.. فقد فتح مبارك الطريق لهيمنة أمريكية شبه كاملة على الوطن العزيز مصر.. ووافق على طلب الخارجية الأمريكية بتمويل عدد من المنظمات السياسية والحقوقية داخل مصر، ليفتح الطريق ويمهده لأجهزة المخابرات المعادية للعبث داخل الدولة.. كما أنه ترك ولديه يعيثان فى الوطن فسادًا فيتحكم أحدهما فى رجال الأعمال ورؤوس الأموال.. أما الآخر ففى رسم سياسات الدولة ليتزاوج فى النهاية المال بالسياسة لينجبا سفاحًا فسادًا استشرى فى كل جنبات الدولة.. ليباع القطاع العام بأبخس الأثمان.. وتنهب أراضى الدولة ومقدراتها.. ليترك الوطن جائعًا ويهان أبناؤه فى كل مناحى الحياة.
لتتحول مصر إلى دولة عجوز من عمر حاكمها على مدار ثلاث عقود.. فقد كانت المطالب الشعبية للخامس والعشرين من يناير واضحة: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.. فدفع ثمن رفع لوائها مناضلون فقراء.. من أبناء جيل السبعينات وشباب خرجوا كالسيل فى ظهيرة الخامس والعشرين من يناير.. ليموتوا فداءً لحرية الوطن.. فلم يكونوا إخوانًا ولا ممولين ولا متآمرين.. وإنما شباب متعلمون أبناء الأحياء الشعبية والطبقات المتوسطة.. والتى كانت فى طريقها للتهميش والانزلاق للفقر المدقع.. لم يدفع لهم أحد حفنة من الدولارات ليموتوا أو يصابوا.. ولم يكن لهم ذنب أن ما قاموا به من ثورة عظيمة.. قد التف حولها اللمم من الإخوان والممولين والمتطرفين.. ليحاولوا سرقة الثورة والقفز عليها.. ليأخذوها فى طريق يحقق مصالحهم البغيضة سياسية كانت أو مالية.
فمن يرى براءة مبارك هى تدعيم لموقفهم فى أن 25 يناير كانت مؤامرة ولم تكن ثورة.. يجب أن يرد على تساؤلات بديهية ومنطقية: فهل يمكن أن ينحاز الجيش لـ25 يناير، وهى مؤامرة على الوطن؟.. هل يمكن أن تؤدى التحية العسكرية من اللواء محسن الفنجرى عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمتآمرين؟.. لماذا استنكر اللواء إسماعيل عتمان عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة وصف 25 يناير بالمؤامرة؟.. هل يمكن أن يصف الرئيس السيسى فى أحد خطاباته أمام الأمم المتحدة 25 يناير بالثورة على حكم الفرد وهى مؤامرة؟!
فى النهاية.. مبارك سيبقى مدانًا أمام التاريخ.. فالوطن مازال يعانى من ويلات نظامه.. وتراكمات الإفساد السياسى والإدارى والاجتماعى.. أما عن الوصول لقتلة المتظاهرين فى ثورة 25 يناير.. فلابد من خروج التشريع المتعلق بالعدالة الانتقالية.. لأنه ما سيكفل فكرة تضافر جهود أجهزة الدولة فى الكشف عن الحقائق.. والوصول إلى من قتل المتظاهرين.. فالمادة 241 من الدستور تنص على إصدار قانون العدالة الانتقالية لكشف الحقائق وتعويض الضحايا.. فهناك تساؤلات كثيرة.. سواء ما تردد عن القتل من خلال قناصة أعلى مبنى الجامعة الأمريكية.. أو حوادث الدهس من خلال السيارات الدبلوماسية.. وهناك الكثير من الوقائع والأمور التى تتطلب البحث للكشف عن الحقائق.