الثلاثاء الماضى كان عيد مولدى الخامس والستين، لا أتذكر فى طفولتى أن احتفلت بتلك الذكرى، كانت ذكرياتى تركض أمامى هذا المساء، تسبق ظلى، ينبثق من خيالها ذكرياتى، وتنساب منها سنوات العمر الجميل.. كنت مقاتلا فى المقاومة الفلسطينية، وانتقلت من صور إلى بيروت قمت بزيارة الفنان الراحل عبدالمنعم القصاص، عمى عبدالمنعم بوجهه النبيل وشاربه الفضى مثل قديس من قديسين العصور الوسطى، بالروشة فى بناية أمام الصخرة الشهيرة كان مقر مجلة اليسار العربى، ومواجهة لمقر مجلة الكرمل، اصطحبنى عم عبدالمنعم إلى جاره الشاعر محمود درويش، الحلم يطل من عيون القصيدة، هناك كان الشاعر الفلسطينى الغزاوى معين بسيسو، الذى تكحل بطمى النيل وزنازين أبو زعبل، والشاعر عبدالرحمن الخميسى، حجر كريم متعدد الألوان، لم أصدق نفسى أننى أشارك هؤلاء العظام فى مكان واحد، ومالبثت إلا جاء الكاتب مصطفى الحسينى ودخان لفافة تبغه الفرنسى «جيتان» تسبقه، والقائدان الفلسطينيان ماجد أبو شرار، وأبو إياد، وكأنهما أشجار برتقال من يافا يمضيان نحو الوطن المقبل من أعماق الجرح وأحلام الشعراء العشاق، والمخرج السينمائى فؤاد التهامى كأمير يتحدث، والمفكر ميشيل كامل عبق الثقافة اليسارية المصرية، أربع ساعات قضيتها مستمعا لكل هؤلاء العظام، وكأننى انتقلت من كوكب الأرض إلى كوكب بعيد، يطل من بين عيون جبال الأوليمب والألهة أبناء زيوس.. غاب كل شىء من ذاكرتى إلا مغادرتنا للمكان، وكان البدر البيروتى يبحث عن صوت فيروز من بعيد يتسلل من بين هدير موج البحر، ويختبئ من القذائف الطائشة خلف السحب، وصوت عم عبدالرحمن الخميسى الجهورى يجلجل: إلى أين يا عبدالمنعم تأخذنا الأيام؟ يبتسم عم عبدالمنعم وهو يرد إلى المنزل حيث لدينا مفاجأة.
كانت بيروت حينذاك جدارنا الأخير، فى التغريبة الأولى لليسار المصرى، السادات يوقع اتفاقات السلام، والعقل المصرى لايستوعب ما حدث، مصر العظيمة تتهم بالخيانة!! ما بين اتهام الحاكم واتهام الوطن جرح ينزف لا تضمده بيانات الإدانة، ومقالات الشجب، أشعر بانكسار بين ضلوعى يرتجف قلبى مثل الرجفة الدامية فى ليلة إعلان هزيمة يونيو 1967، آه يا جرحى المكابر.. وطنى ليس حقيبة وأنا لست مسافرا» الشعر مخدر ولكنه ليس دواءً، كان الشباب المصرى يتوزع ما بين حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية، كنا نرى فى مقاتلة العدو دواءً لجراح السياسة، وصلنا المنزل بالطابق الرابع عشر، تركنا المصعد وجلسنا فى شرفة المنزل، فجأة خرج عم عبدالمنعم ومعه تورتة وشمعة، ونظر لعم عبدالرحمن الخميسى قائلا: اليوم عيد ميلاد رفعت «الاسم الحركى لى حينذاك»، سألت دموعى لست أدرى لماذا؟ ربما لأننى تذكرت حبيبتى خلود شتلة تبغ جنوبية تطل من فوهة بندقية، ربما لأنى تذكرت أمى وكنت أحن إلى خبز أمى وقهوة أمى، ربما تذكرت رفاقى فى حزب التجمع غبريال زكى ومحمد سعيد والدكتور رفعت، بالتأكيد لأن التجمع تلخص فيه كل شىء العائلة والوطن والتحقق والهزيمة، ولايزال التجمع فى العينين، أراه من خلف الذكريات، ضعفت الرؤية ولكن العينين مبصرتان، يا إلهى كل هذا الحزن لى، من يرفع عنى مر هذا الكأس، 39 عاما ولايزال الحب جرحه لم يندمل، ورائحة البحر مازالت فى أنفى، وطعم الذكريات يطل من بين وجه عم عبدالمنعم بوجهه النبيل وشاربه الفضى مثل قديس، ورأس الخميسى التى تشبه رأس زيوس يطل من خلف الأوليمب، وشمعة تتوهج مع ضوء القمر وكأنها التجمع فى الزمن الجميل، ورحيق سنوات الصبا تطل من بين عيون الحلم.
«سكروا الشوارع عتمو الشارات/ زرعوا المدافع هجروا الساحات/ وينك ياحبيبى بعدك يا حبيبى
/ صرنا الحب الضايع صرنا المسافات/ اشتقنا للأيام السعيدة أيام السهر عالطريق/ عجقة سير وماشوير بعيدة ونتلاقى بالمطعم العتيق/ يا هوا بيروت يا هوا الأيام ترجعى يابيروت ترجع الأيام»
7 مارس 1979v، أول عيد ميلاد أحتفل به فى حياتى.