رغما عنى جذبت عينى تلك اللافتة الكبيرة التى تحمل إحدى لوحات الفنان المصرى الرائد «أحمد مرسى»، وقد كنت فى طريقى إلى ساحة الفنون بإمارة الشارقة العزيزة على القلب والقربية من الروح، لكن ما إن رأيت تلك اللافتة التى تكاد تعانق السماء حتى أوقفت الباص ونزلت لأشاهد لوحات الفنان المصرى القدير المولود فى 1930 الذى مازال يمتعنا بإبداعه ليجرح سماء التشوه التى نعيش فى ظلها، وبعد أن زرت المعرض فيما يقرب الساعة تأكدت تماما من أننى إن لم أر فى الشارقة سواه لكفى.
المعرض يقام بشكل مستقل عن بينالى الشارقة الثالث عشر الذى يضم العديد من الأعمال التشكيلية الجيدة، كما يقام أيضا مستقلا عن لقاء مارس للفنون الذى تقيمه الإمارة العزيزة، وقد خصصت مؤسسة الشارقة للفنون التى ترأسها الشيخة حور القاسمى ابنة الرجل الفاضل «سلطان القاسمى» حاكم الشارقة كامل قاعات الدور الأول من المتحف لاستيعاب أعمال الفنان المصرى الكبير، ولا أبالغ إذا قلت إن الجهد الذى بذله الناقد السودانى الكبير «صلاح حسن» فى تنظيم هذا المعرض جعل منه حدثا استثنائيا، فقد جمع «حسن» عشرات اللوحات التى ترصد مسيرة الفنان المصرى صاحب البصمة الراقية فى تاريخ الفن العربى كله، ابتداء من خمسينيات القرن الماضى حتى واقعنا المعاصر، ولم يقتصر المعرض على اللوحات الزيتية التى يتميز بها «مرسى» فحسب، وإنما جمع أيضا العديد من الاسكتشات والعديد من الوثائق النادرة، والعديد من الكتب التى تبرز تاريخ «مرسى» فى الشعر والإبداع والترجمة، وفوق كل هذا أعد فيما توثيقيا لمشوار مرسى الفنى مؤطرا بأغنيات سيد درويش ومشبعا برائحة بحر إسكندرية الذى أسهم فى تكوين قلب الحركة التشكيلية المصرى.
لو كنت مكان وزارة الثقافة لأتيت بهذا المعرض كاملا إلى القاهرة، ليس فى صورة معرض فحسب، وإنما فى صورة متحف متكامل لفنان مصر المخلص «أحمد مرسى» فأهمية هذا الفنان لا تنبع من فرادة أعماله التشكيلة فحسب، وإنما تتعدى هذا بكثير، فقد كان مرسى شريكا أساسيا فى حركة الشعر المصرى، وحركة الترجمة أيضا، كما أن لوحاته تحمل بصمة فريدة لشخصية مصر فى منتصف القرن الماضى وما بعده، ففيها من الروح القبطية المصرية الخالصة، وفيها من طيبة الفن وبراءته، وفيها من قسوة الواقع العربى المتقيت، وفيها أبلغ تجسيد للحظات الانكسار القومى، ودفقات الحب المبتور، وإن قررت وزارة الثقافة إنشاء هذا المتحف فهذا لا يعد تكريما لفنان مصر المخلص فحسب، بل تجسيدا لمسيرة وطن حائر بأبلع ما ما يكون التجسيد.