مساعدة الآخرين كانت السعادة الحقيقية عند أمى وكانت تفرح عندما تتحسن أحوال الآخرين
ليسمح لى القارئ العزيز أن أبتعد عن الكلام الكبير فى عيد الأم ونضال المصريات، وأن أكتب عن أمى رحمة الله عليها، فهى الأستاذ الحقيقى الذى تعلمت منه قيم العدالة الاجتماعية والعيش المشترك مع الفقراء، تعلمت منها، وهى التى لا تعرف القراءة والكتابة، آداب الحوار وقبول الآخر والتسامح والتفاوض للوصل إلى حلول وسط.
كانت تعمل لساعات طويلة بلا كلل أو شكوى، تخدم الكبير والصغير، وابتسامتها لا تفارقها، وكنت ومازلت فى حيرة من أمر هذه السيدة العظيمة التى نادراً ما تخرج إلى شوارع بلدتنا «السنبلاوين»، ومع ذلك كانت معروفة ومشهورة للغاية، لأن سيرتها فى حبها لعمل الخير ومساعدتها لأناس لا أعرفهم كانت تنتقل بين الناس، لذا فإن كثيراً من سكان الأحياء البعيدة عن بيتنا لم يكونوا يعرفون والدى أو عائلته، حيث استقر جدى لأبى بالسنبلاوين فى أواخر القرن التاسع عشر، بينما كانوا يعرفوننى من خلال ذكر اسم أمى، والحقيقية أننى نتيجة الثقافة الذكورية المتخلفة كنت أخجل من ذكر اسم أمى وعائلتها «الصياد» التى كانت من العائلات المؤسسة لبلدتنا، كانوا يقولون لى.. «آه ابن السيدة نفيسة أم عبده الصياد» ويحتفون بى.
كان هذا الاسم يربك وعيى الصغير، فهل اسم أمى هو «السيدة» أم «نفيسة»؟ أم أن لها اسما مركباً؟ وإيه حكاية أم عبده دى؟ كبرت مع الأيام وفهمت أن نفيسة هو اسمها، لكن يبدو أن السيدة هو «كنية» أو دلع.. أما حكاية أم عبده الصياد فهو اختصار لاسم والد أمى الشيخ عبدالرحمن الصياد الذى سافر إلى الأزهر أواخر القرن العشرين، وحصل على العالمية، وكان تلميذا للشيخ محمد عبده، وقد عاد ليصبح إماماً لمسجد «البكايره» فى وسط البلدة التى كانت مركزاً لعشرات القرى والعزب، وكانت أسرة الصياد تسكن هذا الحى، وأسهمت فى بناء المسجد، وتطوع جدى لأمى للعمل كإمام وخطيب، حيث افتتح مدرسة ابتدائية أهلية لتعليم أبناء البلدة والقرى المجاورة أوائل القرن العشرين. والمفارقة أن الرجل لم يهتم بتعليم أمى، ربما لأنه مات وهى صغيرة، فخرجت صغيرة لتتعلم أعمال الخياطة.
مات جدى صغيراً، وترك أمى وخالى صغيرين، ومعهم جدتى «هاجر»، التى باعت المدرسة والأرض التى تركها جدى للإنفاق على الطفلين، واحتفظت بالبيت، لكن مع مرور الزمن تدهورت أوضاع الأسرة المالية، فخرج خالى للعمل، وجلست أمى فى البيت تحيك الملابس للأقارب والجيران، إلى أن تزوجت من والدى، ووقفت إلى جانبه ودعمته إلى أن تحسنت أوضاعه، وصرنا من الأسر الميسورة، لم نكن من الأغنياء يوما ما، وكانت الفروق بيننا وبين الفقراء محدودة، ومع ذلك كانت أمى تتصرف كواحدة من الأثرياء فى تسابقها للتبرع والعطاء، وليس فى الإنفاق على نفسها، فتنازلت عن ورثها فى بيت جدى لخالى، وحولت بيتنا لمركز صغير للمساعدة الاجتماعية، وهنا أذكر أننى كنت أنادى قرابة العشر سيدات بخالتى فلانة، وكنت أعتبرهن وأنا صغير أخوات لأمى من كثرة ترددهن على بيتنا وجلسوهن معنا طوال اليوم، وكان بعضهن يقمن فى البيت عندما يتشاجرن مع أزواجهن، وأتذكر أيضاً أن بيتنا تحول إلى بيت أم العروسة لكل بنات خالى، ولعدد من البنات الفقيرات التى ساعدت أمى فى زواجهن.
مساعدة الآخرين كانت هى السعادة الحقيقية عند أمى، وكانت تفرح عندما تتحسن أحوال الآخرين، أو تسمح أخباراً جيدة عنهم، فهى لم تعرف الحقد أو الضغينة. كانت راضية عن حياتها تماماً، ولا أتذكر أنها تشاجرت مع أبى أو ارتفع صوتها فى البيت، أو «زعقت» لنا نحن أبنائها، أو قامت بمعاقبتنا، أو طلبت منا أن نذاكر دروسنا، حيث كان أبى رحمه الله يقوم بهذه المهمة كل يوم تقريباً.
فى عيد الأم والذى كنا نحن الأبناء نحرص على الاحتفال به كل عام، لا أملك سوى طلب الرحمة من الله لأمى، والاعتذار منها عن كل تقصير وعن أى ألم سببته لها، عندما شاركت فى العمل السياسى وأنا فى الجامعة، كانت تخاف علىّ، وتتألم فى صمت، وانزعجت للغاية عندما زارنى زوار الفجر فى عام 1980، لكنها سرعان ما كان تسامحنى وتدعو الله أن يحرسنى، ويصلح حالى ويهدينى ويرزقنى، إلى آخر تلك الدعوات الجميلة الصادقة التى لا أسمعها الآن من أى إنسان، لأنها حق حصرى للأمهات.