من المسائل المثارة فيما يتعلق بكفالة الأيتام أيضًا، إضافة إلى ما سبق تناوله فى مقالات سابقة، أن بعض الجهات المعنية بكفالة الأيتام تقدم دعمًا ماليًا لبعض أيتام الأسرة الواحدة دون بعضهم الآخر، وقيام بعض الجهات الأخرى بإنشاء مدارس خاصة بالأيتام، تشرف عليها إشرافًا كاملًا، وتتحمل نفقات تشغيلها.
أما عن المسألة الأولى، وهى كفالة بعض أيتام الأسرة الواحدة دون بعضهم الآخر، فإنه على الرغم من التماس العذر للجهات العاجزة عن كفالة جميع الأيتام، ومن فى حكمهم، نظرًا لضعف قدراتها المالية لقلة أموال التبرعات فى الدول الفقيرة، لا سيما فى الدول التى تعانى من صراعات مسلحة تذهب بكثير من الآباء، وتخلف العديد من الأيتام، فتضطر تلك الجهات إلى كفالة بعض أيتام الأسرة دون بقية أفرادها، فإن هذا الصنيع فى غاية الخطورة لما يترتب عليه من مشكلات نفسية واجتماعية ضارة جدًا، وهو ما لمسته فى أثناء مشاركتى فى المؤتمر العربى الإسلامى الثانى لقضايا الأيتام، الذى عُقد بالعاصمة السودانية الخرطوم فى نوفمبر عام 2016، حيث تساءل أحد الحاضرين عن حكم إنفاق الأم على أولادها جميعًا من الأموال المخصصة لبعضهم فقط، وقبل أن أجيب رد أحد زملاء المنصة، وهو يعمل ميدانيًا فى إحدى الجمعيات التى تقوم على شؤون الأيتام، قائلًا: لدىّ واقعة فعلية؛ حيث إننا نكفل يتيمين من أسرة بها خمسة أيتام، وذات مرة قدمنا حقيبتى مدرسة للطفلين المكفولين، فأخبرتنا الأم بأن إخوتهما الآخرين حزنوا حزنًا شديدًا، وقال أحدهم ظنًا منه أنه يواسى أمه ويخفف عنها: «متزعليش، أنا عارف حظى من الدنيا قليل»!، وعلى المستوى الشخصى تألمت لما سمعت، وقلت للسائل، غير متأثر بما وقع علىّ من ألم، وإن كان شديدًا: يجوز للأم أن تنفق على بقية أولادها الأيتام من الأموال المخصصة لبعضهم؛ وذلك لأن الجمعيات والهيئات الكافلة للأيتام تتصرف فى أموال تبرع بها أهل الخير من أجل كفالة الأيتام بصفة عامة، وليس لمكفولين بأعيانهم كما ذكرنا فى مقالة سابقة، ولا يحبون أن تتسبب أموالهم فى إيلام بعض الأيتام، بل إنهم يقصدون التخفيف عنهم ومساعدتهم، والأم تتولى الإنفاق على أولادها الأيتام بما يصلها من أموال الكفالة ومن غيرها، ولذا يمكنها التسوية بين أولادها فى الإنفاق بما يصلها من أموال كفالة، وبما بين يديها من أموال أخرى، ولا سيما أن أموال الكفالة فى الغالب لا تفى بحاجة اليتيم كاملة، وإنما هى لمجرد المساعدة، فتدخل أحد الحضور قائلًا: لكن هذا الأمر يفوت على تلك الجهات مقصدًا مهمًا، هو مراقبة تأثير أموال الكفالة على المكفولين، مقارنة بغير المكفولين، فقلت: إن هذا المقصد مرفوض من الجمعيات التى تقوم به، فمن غير المقبول جعلُ الأيتام حقلًا للتجارب، يمتاز فيه المكفول بينما يتحسر غيره، وإن كان أخاه الشقيق، فتكون نتيجة ذلك أن يتولد الحسد والحقد والبغضاء بين بعضهم، ومن ثم فإنه لو اقتضى الأمر ترك كفالة جميع أفراد الأسرة ليتولاهم بعض أهل الخير غير تلك الجمعيات؛ لكان أليق وأهون بكثير من تخصيص الكفالة لبعضهم دون الآخرين.
ولذا، فإن حل هذه المشكلة يكون بأن تشمل الكفالة جميع أيتام الأسرة الواحدة بقدر ما يتسع له المال ولو قلّ، أو يفوّض وصى اليتيم بالإنفاق على أيتامه جميعًا من تلك الأموال دون تخصيص، وينبغى أن تكون جميعها نقودًا وليست أشياء عينية لا يمكن قسمتها، كالحقائب المدرسية ونحوها، فهذه تحديدًا لا ينبغى بحال تقديمها لبعض أيتام الأسرة الواحدة دون الآخرين، فهذا الأذى النفسى الذى يترتب على هذا الفعل- وإن صحت نية فاعله- ممنوع فى الشرع الحنيف؛ فمن الآداب الشرعية الواجبة الامتناع عن أذى الجيران؛ حيث يقول النبى، صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره»، ويقول: «ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»، ويقول أيضًا: «يا أبا ذرّ، إذا طبختَ مَرَقَةً فأكثِر ماءها وتَعاهَد جيرانك»، وغير ذلك من النصوص التى تأمر بالإحسان إلى الجيران، وتحذر من إيذائهم إيذاء نفسيًا معنويًا، فضلًا عن الإيذاء المادى، وعليه فإن ما ينبغى أن يكون أن نطعم جيراننا الفقراء مما نطعم، وأن نعطيهم مما نحمل لبيوتنا أو نخفيه عليهم حتى لا تنكسر قلوبهم، وإذا كان هذا من آداب إسلامنا الحنيف مع الجيران كبارًا وصغارًا، فكيف بأهل الدار الواحدة من الأيتام، وكلهم صغار غالبًا؟!
أما المسألة الثانية، وهى تخصيص بعض الجمعيات مدارس لتعليم الأيتام، ومن فى حكمهم، فعلى الرغم من النية الحسنة للقائمين على هذا الأمر، والدعاء لهم بالأجر والمثوبة من الله عز وجل، فإننى أرى أن هذه التجربة فى حاجة إلى تقييم علماء النفس والاجتماع لها، حيث أعتقد أن دمج هؤلاء الأيتام مع أقرانهم من غير الأيتام مع تثقيف الجميع وتوعيتهم وتوفير البيئة والمناخ الملائم، ولو بإخفاء حقيقة الأطفال الأيتام الذين فقدوا أحد الوالدين أو كليهما، عن أقرانهم حتى لا ينظروا إليهم نظرة الشفقة أو الدونية، فكلتاهما يكسر القلب، ويورث الحزن فى نفوس الأيتام، ومن فى حكمهم بلا جريرة ارتكبوها؛ أقول إن دمج هؤلاء الأيتام مع غيرهم أفضل كثيرًا من ترسيخ الانطوائية فى نفوسهم بعزلهم فى مدارس خاصة بهم، فضلًا عن شعورهم بأنهم فى مرتبة أقل من أقرانهم، فإن أبت هذه الجمعيات إلحاقهم بمدارس عادية، فلا أقل من أن تقبل فى تلك المدارس المخصصة للأيتام نسبة من الأطفال الذين يعيشون فى كنف أسرهم، على أن يُتوخى أن تكون هذه الأسر قد ربت أولادها تربية لا يُخشى معها على الأيتام من سلوكياتهم ومعاملاتهم لهم.