الأصل اعتماد الوسائل السلمية فى رد الحقوق حيث تكون الحرب آخر الحلول
يعتقد البعض خطأ أن مفهوم «الجهاد» هو ذلك المحصور فى القتال، وانطلقوا فى فهمهم لهذا المعنى بآيات من القرآن «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ»، «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ»، لكن الاستدلال بجزء من الآية هو خطأ كبير وظلم للقرآن، إذ لابد من تفسيره جملة واحدة قبل إطلاق الأحكام وتعميمها، لأن تجزئته تشوه أهدافه، فينتج عن ذلك الأفكار المتطرفة، فالجهاد هو بذل الجهد فى كل عمل لله، وانطلاقًا من هذا المفهوم، فالعمل جهاد، والسعى على الرزق جهاد، وإطعام الأولاد وتربيتهم جهاد، وطلب العلم جهاد، وكل عمل كان لله خالصًا من القلب جهاد، وكل من يخرج بنية العمل فهو فى سبيل الله. أما القتال فلا يأتى فى القرآن إلا عن معركة عادله بين جيشين «وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا»، والمقصود هنا القرآن وليس السلاح.
هكذا جاهد الصحابة: عن ابن أبى ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر على النبى صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله: لو كان هذا فى سبيل الله؟، فقال رسول الله: «إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو فى سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو فى سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو فى سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو فى سبيل الشيطان».
وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقدم درجة الكسب على درجة الجهاد، فيقول: «لأن أموت بين شعبتى رحلى أضرب الأرض أبتغى من فضل الله أحب إلىَّ من أن أقتل مجاهدًا فى سبيل الله» لأن الله تعالى قدم الذين يضربون فى الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين، بقوله تعالى: «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ». وعلى ضوء هذا يتضح المنهج الإسلامى المرسوم لأتباعه بأنه يحثهم على توزيع قواهم بين العمل للدنيا بحيث لا يتركون فراغًا فى دنياهم، والعمل للدين بحيث لا يهملون مبادئ دينهم، وبذلك يكونون قد استجابوا لله: «وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»، إنه دين التوازن والوسطية والاعتدال، دنيا وآخرة، عمل وعبادة، متجر ومسجد.
الفهم المتطرف للجهاد: التنظيمات المتطرفة تنطلق فى رؤيتها إلى مفهوم الجهاد من مجموعة آيات تتكلم عن القتال دون قراءة النصوص القرآنية كلها كوحدة بنائية واحدة، كما يتضح على النحو التالى: فالقتال فى الإسلام لا يكون إلا لرد الاعتداء: «وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ»، فالله تعالى قيد القتال هنا بقيد شديد هو الاعتداء، ثم وضع شرطًا دقيقًا فى قوله: «فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»، أى أن الاعتداء يكون على ذات المعتدى وليس غيره، فإذا انتقمت أو قتلت أخاه أو أباه يكون دمه فى رقبتك يوم القيامة «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى». والشرط الثانى للقتال: وقوع ظلم «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا»، وهذه هى القاعدة الذهبية التى يجب التعامل وفقها.
والأصل اعتماد الوسائل السلمية فى رد الحقوق، حيث تكون الحرب آخر الحلول، لأن السلم فى الإسلام هو الأصل والحرب هى الاستثناء.. «ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً»، «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين» فإذا لم تفلح الوسائل السلمية كانت الحرب لرد الاعتداء فى معركة عادلة بين جيشين، وهنا مثل أى دولة تدخل حربا يأتى الأمر بل التحريض على القتال العادل «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ» «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ».
الفتوحات الإسلامية: فى النظر إلى الفتوحات الإسلامية نجد أنها كانت فى أصلها لمواجهة خطر يحيط بالدولة الإسلامية الوليدة وقتها ليقضى عليها، وكان ذلك فى عهد النبى، حتى إنه عمر نفسه أيام النبى لما جاء أحدهم ليناديه وهو نائم قال: أهاجمتنا الروم؟، والنبى وهو فى سكرات الموت يقول: «أنفذوا جيش أسامة»، لأنهم كانوا يستعدون لمهاجمة المدينة.. كان هناك تهديد عسكرى يحيط بالدولة وقتها. والفرس والروم لم يكونوا أصحاب البلاد فى مصر والعراق والشام، بل كانوا محتلين ظالمين، والمسلمون لم يحاربوا أهل البلاد، بل حاربوا المحتل ورفعوا الظلم عن أهلها ثم قالوا لهم: «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ».
والقرآن حدد شكل العلاقة مع الآخر فى قوله: «لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ».