*سنظل نلهث بلا طائل لو تصورنا أننا يمكن أن نطور الدولة دون أن نطور أفرادها
أى تنمية فى العالم تعتمد على التنمية البشرية، حتى ولو تنمية الثروة الحيوانية. فأى دولة لن تحصل على سلالات متميزة من الجاموس والبقر إلا لو امتلكت سلالات جيدة من البنى آدمين تربى هذه السلالات الحيوانية، وتسمنها وتعالجها بذكاء وعلم ومهارة. ففاقد الشىء لا يعطيه حتى للبهائم. لذلك يصبح كل شىء فى الدولة أقل من المستوى المطلوب طالما هدف تنمية المواطن غير مطلوب.
والتنمية البشرية تشمل كل سلوكيات وأفكار الناس، فهى الأخلاق بكل ما تحمله من قيم ومبادئ وهى الاقتصاد بكل ما يحمله من مهارات وقدرات، وهى المجتمع بكل ما يحمله من تصالح وتعاون ورغبة فى التطوير والعطاء، لذلك فإن استمرار المشاكل الاقتصادية وتفحل الأزمات الاجتماعية وضعف الإنتاج وتدنى الأخلاق وإهدار الموارد ومحو القيم وانبطاح الجنيه وانحدار الذوق العام يؤكد أن الإنسان المصرى فى أزمة مع ذاته قبل أن يكون فى أزمة مع حكوماته.
صحيح أن الأنظمة السياسية السابقة والحكومات المتعاقبة، دمرت الكثير فى الشخصية المصرية وطمست فيها العديد من النواحى الإيجابية من تفانى فى العمل أو التزام أخلاقى أو إبداع فى مختلف المجالات. إلا أننا بلا شك كنا أرض خصبة لبذور عطبة. أخرجت لنا فى النهاية ثمار مسمومة نراها الآن كل يوم تجتاح حياتنا من القمة إلى القاع وتشكل أنماطًا إنسانية غريبة على أى مجتمع آدمى. فيسود قانون الغاب حشودًا من البسطاء فيخرجوا بالمئات ليروعوا أسرًا قبطية لم تفعل شيئًا إلا حماية ابنتها القاصر من غواية شاب مسلم تافه وعاطل لم يتعد العشرين. حصل على تأييد ناس جاهلة يعتقدون أن الدين يأتى بالإكراه والزواج يتم بالتشهير والعنف. تناسوا أبسط القيم المجتمعية التى تدعو إليها كل الأديان الإلهية أو الأعراف الإنسانية فى التعامل مع الآخرين بالمعروف ومنع الأذى عن الناس وحماية الجار والحفاظ على حرمات البيوت لتنضم أميرة لأخواتها وتصبح وصمة عار جديدة فى جبين المسلمين والمصريين وكأننا نشوه علاقاتنا مع أشقائنا المسيحيين من جهة، ونشوه دين الله الحنيف أمام العالم من جهة أخرى، كل ذلك بلا سبب مقنع وبلا ثمن من الأساس. فماذا يفيد الإسلام من انضمام فتاة قبطية للمسلمين وماذا يستفيد المحتشدون من زواج صبى مسلم تافه من قاصرة قبطية، رغم أنف عائلتها. ولماذا تحول الموقف إلى حرب ومصابين وفتنة كارثية. هذه هى العقول التى أخرجها لنا التعليم المصرى وثقافة التطرف واللامسؤولية والخطاب الدينى المنحرف المتشدد، عقول لا تحتاج إلى تنمية بشرية بل إلى مستشفى أمراض عقلية. أما على المستوى السياسى فنظرة واحدة على مجلس الشعب تجعلك تدرك أن نظرتنا للتنمية البشرية فى «الضياع» فلا لغة ولا أسلوب ولا إدارة حوار ولا أفكار ولا جدل بناء أو مناقشة ديمقراطية هادفة. كل الأصوات منفلتة صاخبة وكل القرارات من طرف واحد وتكتل مؤيد للحكومة «أى حكومة» والمعارضة مهمشة تائهة خائفة لا يسمح لها بالكلام فى أغلب الأحيان. فهل هذا الأداء حصاد ثورتين أم حصاد انصهار السياسة بالمصالح برؤوس الأموال؟.
للأسف من السهل جدًا أن تدرك أننا دولة بلا نوابغ أو كوادر أو حتى شخصيات مؤهلة. فحتى الوزراء ضعفاء العلم والقدرة والحيلة يتعاملون مع قضايا الدولة بمبدأ رد الفعل وليس رد المشكلة لأصولها فلا هم متخصصون ولا هم بارعون ولا هم يحاولون أن يتعلموا أو يطوروا قدراتهم الفنية أو الإدارية، فمعالى الوزير جاء ليعلم وليس ليتعلم، لذلك معظم تجاربنا مع الوزراء فاشلة ومشاكلنا مع وزاراتهم تنتقل بالتقادم بين الجدد والراحلين لا تحل بل تزداد تعقيدًا. سنظل نلهث بلا طائل لو تصورنا أننا يمكن أن نطور الدولة بدون أن نطور أفرادها أو أن نحصل على طفرة فى أى مجال اقتصادى أو سياسى أو أخلاقى بدون تنمية حقيقية للإنسان المصرى سواء وزير أو أجير.