أشار طفلٌ إلى طائر يجوب السماء، وقال لأبيه: «أريدُ أن أطير مثل هذا يا أبى وأصل إلى قمة الجبل»، فسخر الأبُ من ابنه، وقال بثقة العالِم: «الإنسانُ لا يطير يا أحمق»، فصمت الأحمق. جلست طفلةٌ على ضفّة النهر تراقبُ الموجات، ثم ركضت إلى أمها: «أمّى أودُّ أن أغطس فى عمق الماء»، فهزأت الأمُّ منها قائلة: «كفى غباءً فأنت لست سمكة»، فكفّت الغبيةُ عن غبائها، ومضت تكنسُ الدار.. كبر الطفلُ الأحمقُ، وكبرت الطفلةُ الغبية عامًا، وقالا لأبيهما وأمهما: «اشتقنا إلى حكايات الجدّة التى تسكن فى البلدة البعيدة، كيف يمكن سماع صوتها عن بعد؟»، فضحك الأب والأم من بلاهة الطفلين وجهلهما، وأخبراهما أن الإنسان ليس عفريتًا ليسمع عن بعد، وأنهما حين يكبران سيعرفان أن ما تمنياه مجرد نكتة سمجة، فسكت السمجان الأبلهان وانتظرا أن يكبرا.
سيكبرُ الأطفالُ ويموت الآباءُ والأمهات، لكن ستبقى نظرياتهم الأسطورية خالدةً خلود قوانين الطبيعة الصارمة.. حين يكبر الأطفالُ سيعلّمون أطفالهم أن الإنسان لا يطير، ولا يغطس، ولا يتحدث أو يُنصت عن بعد. وتمرُّ السنوات والعقود والقرون، ونصلُّ إلى القرن الحادى والعشرين دون أن نعرف شيئًا اسمه طائرة، ولا غواصة، ولا هاتف، ولا موجات صوتية وضوئية، ولا حاسوب كالذى أكتب عليه ما أكتب الآن، ولا مطبعة تنقل أفكارى إليكم، فالسلفُ الصالح لا يتكلم هراءً، وما يُقعّدونه من نظريات لا يجوز مسَّها، لأن الأقدمين مقدسون لا يخطئون، وانتقاد قول الأموات خطيئةٌ ومروق وكفر، فمن تمنطق قد تزندق.
فى القرن الرابع قبل الميلاد قال سقراط إن عدد أسنان المرأة أقلُّ من عدد أسنان الرجل، لم يقل هذا كطبيب أسنان، بل كفيلسوف يرى أن المرأة بفمها «النونو» الأصغر من فم الرجل، لابد أن يحتوى على أسنان أقل. وحين جاء أول طبيب أسنان فى التاريخ ليكشف خطأ تلك الفرضية، اِتُهم بالجنون والعته والكفر والشذوذ، لأنه يحاول أن يُكذّب رجلًا من السلف، بالرغم من أن هذا الرجل السلفى، سقراط، قد حُكم عليه بالموت بتهمة الزندقة والكفر وازدراء الآلهة فى شريعة الإغريق.
للموت هالةٌ تمنح الميتَ قداسةً ليست فيه، ومن ملكات الإنسان الحسنة توقير الميت ونسيان عيوبه، أو تناسيها، وفى الحديث الشريف: «اذكروا محاسنَ موتاكم، وكفّوا عن مساوئهم»، وهى خصلة طيبة، لأن الميت لم يعد هناك ليدفع أذى القول عن نفسه، فأمّنتْ له الإنسانيةُ أن يرقد فى سلام، ويتوفر بكامل طاقته للعالم الآخر، دون الاضطرار للذود عن اسمه السابق فى دنيا تركها إلى غير رجعة، لهذا ننسى أخطاء موتانا، ولا نتذكر إلا مواقفهم الكريمة، وذكرياتنا الحلوة معهم. إلى هذا الحد، يُعدُّ الأمرُ إنسانيًّا ومقبولًا، لكن الأمر قد يتجاوز حدَّه، فيتحول هذا الميت إلى قديس أو عالم. وكما تعلمون فإن «لحوم العلماء مسمومة»، كما قال ابن عساكر! فتغدو كلمات الراحلين أقوالًا مأثورة تشارف القداسة، وقد تختلط أفعالُهم بالطقوس الدينية والسنن الواجبة المحاكاة.
انتبه فرنسيس بيكون، المفكر الإنجليزى التنويرى، ابن القرن السادس عشر، إلى تلك الآفة البشرية فى «تقديس الأولين»، دون مجرد الرغبة فى تحليل أقوالهم وغربلتها، وتمييز الصالح منها والطالح، والعميق منها والعفوى، والعلمى منها والجهول. وأسمى تلك الآفة بـ«صنم المسرح»، ضمن الأصنام الأربعة التى تعوقنا عن معرفة الحقيقة، واستشهد بتجربة عملية علمية أجراها مجايله الإيطالى العالم الفلكى الفيزيائى «جالى ليو جاليلى»، الذى أثبت على رؤوس الأشهاد من علماء رياضيات وفيزياء، وأمام حشود العامة من الناس، فى تجربة عملية واقعية، أننا لو ألقينا من أعلى برج «بيزا» حجرين يزن أحدهما رطلًا، والآخر يزن عشرة أرطال، فإن الحجرين سوف يصلان الأرض فى لحظة واحدة. وشاهد الناسُ ذلك بعيونهم، لكنهم كذّبوا عيونَهم، ولم يصدقوا ما رأوا، واتهموا جالى ليو بالجنون! لماذا؟ لأن أرسطو الفيلسوف الإغريقى الشهير، الذى مات قبل تلك اللحظة بعشرين قرنًا، له رأى آخر يذهب إلى أن الحجر الأثقل وزنًا، يصل الأرض أسرع! أرسطو «قال» ولم يثبت نظريته بتجربة عملية، وجالى ليو «أثبت» نظريته عمليًّا، لكن الناس صدقوا «الميت» الذى «قال»، ولم يصدقوا «الحىَّ» الذى «أثبت»! لماذا؟ إنها «هالة الموت» التى تجعل من الأموات قديسين وأنبياء وعلماء لا يخطئون. وحدث الشىءُ نفسه حين أثبت جالى ليو بالمعادلات الرياضية أن الأرض تدور حول الشمس، فحكمت الكنيسةُ عليه بالموت لأن فى هذا مخالفة لقول الأولين، وما فهموا من الكتب المقدسة من أن الأرض هى مركز الكون، تدور الشمسُ حولها، فاضطر جالى ليو، إنقاذًا لحياته، إلى العدول عن قوله، ومجاراة أقوال الكهان المغلوطة.
أديرُ الآن رقم هاتف جالى ليو وأعاتبه قائلة: «لو كنتُ مكانك لتمسّكتُ برأيى ولم أخف»، فضحك وقال: «لم أخف منهم يا عزيزتى، إنما رأيت أن أولئك الناس يليق بهم الجهل، فتركتهم فى غبائهم، حتى أنصفنى التاريخ حين خرجت أوروبا من غفلتها التغيبية، وأفاقت على نور العلم وإشراقة العقل».
بعد جالى ليو، وبعد الطفل الساذج، والطفلة الغبية فى أول المقال، جاء أطفالٌ آخرون، أخبرهم آباؤهم أيضًا أن الإنسان لا يطير ولا يغطس ولا يسمع عن بعد، لكن أولئك الأطفال الجدد لم يصدقوا آباءهم.. أولئك الأطفال أنعم اللهُ عليهم بمَلكة عظيمة اسمها «الشكّ» فى المُسلّمات التى يقولها الموتى.. الشكّ هو أبو الإبداع، ولا إبداع دون شكّ، ولولا شكّ العلماءُ فى أقوال سابقيهم، ما اخترعوا لنا كل ما نستمتع به اليوم من منجزات العقل والشك.. لو سلّم الإنسانُ القديم بأن الإنسان لا يطير كالطائر، ولا يغوص فى البحر كسمكة، ولا يقدر على السمع عن بُعد كعفريت، ما كانت الطائرة، ولا كانت الغواصة، وما كان الهاتف.
أسقطوا الهالةَ عن رؤوس الأموات، وأعمِلوا العقلَ فى كل ما فات، وفكروا فى كل ما تسمعون وفيما تقرأون، لأن الله هو الذى منحنا هذا العقل لنفكر، لا لنُسلّم قوادنا لغيرنا كالأنعام.