«القيادة والفطنة والصدق معك.. ولكنك لا تنتفع بها.. فالفوضى ضاربة أطنابها فى طول البلاد وعرضها.. ولكنك مع ذلك تتغذى بالأكاذيب التى تتلى عليك.. فالبلاد قش ملتهب والإنسانية منحلة، والخوف يملأ النفوس، وانتشرت أعمال البلطجة والسلب والنهب، وعم الانحلال الأخلاقى، عدم المبالاة بالتقاليد والمعتقدات. وشحبت الوجوه وكثر عدد المجرمين ولم يعد هناك رجال محترمون.. وفقد الناس الثقة فى الأمن، وتفككت الإدارة، وتولى الصعاليك إدارة الأمور، ليتك تذوق بعض هذا البؤس بنفسك».
للوهلة الأولى وأنت تقرأ هذا المقطع الأدبى تتصور أنه يصف ما تمر به مصر حاليًا وتحديدًا بعد ثورة 25 يناير. لكن الحقيقة أنه الحكيم «إى بور» يصف حالة أول انقلاب اجتماعى معروف فى التاريخ، على حاكم مصرى وهو الملك بيبى الثانى منذ أكثر من 4215 عاما.
ولننظر ما سرده لنا الحكيم «إى بور»، الذى قرر أن يخبر الملك بكل الحقائق، التى تمر بها البلاد بعد أن خدعه رجال بلاطه ومستشاروه، وأسدوا له نصائح جرت على البلاد الوبال، وذلك نقلاً عن كتاب «تحذيرات نبى».. وهو من الكتب النادرة، التى تؤرخ لتلك المرحلة المظلمة من تاريخ مصر.
يبدأ الحكيم وصفه «للملك» بما تمر به البلاد من البؤس العام الذى حل.. وتفكك الإدارة والقضاء على التجارة الخارجية.. وغزو الأجانب وتولية الغوغاء المراكز العليا.. يذكر الحكيم أن أهل الصحراء حلوا مكان المصريين وأصبحت البلاد ممتلئة بالعصابات.. وأحجم الفلاحون عن الذهاب لفلاحة أرضهم خشية اللصوص وقطاع الطرق. وأصبح الصعاليك يمتلكون أشياء جميلة..وأصحاب الأصل الرفيع مفعمون بالحزن.
واندثر الضحك من على الشفاه.. ونشر الحزن ستائره بطول البلاد وعرضها ممزوجا بالأسى.. وكره الناس الحياة حتى أصبح كل واحد منهم يقول: ياليتنى مت قبل هذا.. والأطفال يقولون: كان يجب عليه ألا يجعلنا على قيد الحياة.. والأطفال حديثو الولادة يلقون على قارعة الطريق..وتحول النهر إلى دماء.. وأصبحت خزائن أموال البلاد خاوية.
يستطرد الحكيم روايته للملك «بيبى الثانى» عن مأساة البلاد التى أخفاها مستشاروه ورجال بلاطه عنه قائلا: «سيدات الطبقة الراقية تم بيعهن فى سوق الجوارى.. وتحولت أغانى العازفين إلى أناشيد حزن.. وندبت الماشية والقطعان حالة البلاد.. وأتلفت المحاصيل وأصبح القوم يأكلون الحشائش والقاذورات من أفواه الخنازير من شدة الجوع.. واختفت الغلال وصارت المخازن خاوية.. وسلبت كتابات قاعة المحاكمة الفاخرة.. ونهبت الإدارات العامة.. ومزقت قوائمها.. وصار اللصوص يدوسون بأقدامهم قوانين قاعة المحاكمة دون خوف.
هذه المقتطفات من حكاية الحكيم «إى بور»، التى رواها للملك بيبى الثانى، تحاكى ما مرت به مصر عقب ثورة 25 يناير، وتحديدا يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011، وما استتبعه من أحداث طوال 3 سنوات كاملة، وحتى اندلاع ثورة 30 يونيه 2013.
التاريخ فى كثير من الأحيان ما يتحدث عن وقائع متسلسلة تحمل دلالات مهمة، ويروى فى منطوقه ما حدث فى الماضى، ويتضمن فى مفهومه ما يمكن أن يحدث فى الحاضر والمستقبل، وهو زمن الامتداد المتقدم، وليس زمن دائرى يعيد إنتاج ما تم إنتاجه بالتفصيل، ولكن بكثير من التشابه، والتاريخ له فلسفة قائمة على مبدأ السببية، ويجيب على السؤال الجوهرى «لماذا».
والتاريخ يفسر الثورات والاحتجاجات بأنها «ضد الواقع وخروج عن النص»، ويشبهها بالرواية، أخطر ما فيها هو فصلها الأخير، فمن توقف عن الكتابة وترك روايته مهملا بلا نهاية، لم يحقق المقصود، وأضاع فى زحمة الأحداث هدفه الموعود.
وفصول الثورة الشعبية، التى اندلعت ضد الملك بيبى الثانى، تتشابه إلى حد التطابق مع أحداث ثورة 25 يناير، مع اختلاف كبير وجوهرى فى النهايات، فقد انتهت ثورة الشعب ضد آخر ملوك الدولة القديمة، نهاية مأساوية، حيث دخلت البلاد فى مستنقع الفوضى والانهيار استمر ما يقرب من 150 عاما، وأطلق المؤرخون على تلك الفترة عصر الاضمحلال الأول، وأيضا «عصر الظلمات الأول».
بينما كان الشعب المصرى يقظا، عقب ثورة 25 يناير 2011، وتحرك لمنع تكرار ما حدث عقب ثورة الملك بيبى الثانى، وسارع فى اتجاه إنقاذ البلاد من براثن «الغوغاء والصعاليك»، الذين سيطروا على المشهد، وزيادة المطامع فى مصر من دول لا وزن لها ولا قيمة مثل قطر وتركيا، وسخروا جماعات ظلامية لتنفيذ مخططاتهم.
لذلك خرج الشعب عن بكرة أبيه فى 30 يونيه 2013، لينقذ وطنه من الانزلاق الذى سقط فيه عقب انهيار الدولة القديمة استمر سقوطها 150 عاما كاملة، ونجح فعليا فى ذلك بعد مرور 3 سنوات فقط من الانهيار.
وبالفعل بدأت مصر تؤرخ لمرحلة جديدة فى تاريخها، مرحلة مختلفة يمكن أن نطلق عليها مرحلة الانطلاقة وإيجاد مكانة مهمة بين الكبار فى العالم، من خلال مشروعات قومية كبرى، والقضاء على كل التشوهات الاقتصادية، وإعداد تأهيل وتسليح الجيش ليصبح واحدا من أكبر الجيوش فى العالم، والمتفوق على إسرائيل وإيران، إقليميا، وهما العدوان الرئيسيان اللذان يهددان الأمن القومى العربى للخطر.