عندما عرف الإنسان ما يسمى بالنظام الاجتماعى، كان هذا هو الطريق إلى معرفة وإدراك كثير من الأنظمة الأخرى التى مهدت لظهور ما يشبه الدولة، تلك الدولة التى كان فيها الحاكم هو المسيطر والمُشرّع والقاضى، فكانت لهذا الحاكم سلطات تجعل من كلامه وأوامره بمثابة القانون الذى يجب الالتزام به، وكان هو أيضًا الذى يحكم بين الناس فى منازعاتهم، أى أنه هو القاضى والمُشرّع، ناهيك عن أنه هو سلطة التنفيذ، أى يجمع فى يده كل السلطات التى عُرفت فيما بعد وقُننت.
هنا لم تكن الدولة قد عُرفت بالمفهوم السياسى الذى يحفظ قوامها ومقوماتها إلا بعد اتفاقية «وستفاليا» عام 1648، تلك الاتفاقية التى حددت للدول حدودها التى تفصلها وتحميها من الدول الأخرى، وهى الاتفاقية التى سبقتها ما تُعرف بالوثيقة الدستورية، التى عُرفت باسم «الماجناكارتا» البريطانية، ومن خلال هذه التطورات كانت تلك النقلة السياسية فى الفكر السياسى على يد سياسيين وفلاسفة بريطانيين وفرنسيين وألمان، منهم جان جاك روسو، وجون لوك، ومونتسيكو، وبذلك ظهرت السلطة التنفيذية، وهى أول ما عُرفت من السلطات، حتى ولو بشكل غير محدد، حيث إن السلطة التنفيذية هى تلك السلطة التى لديها مصادر القوة، من جيش وشرطة ومؤسسات وعاملين بالدولة، بل لديها كل إمكانات الدولة، والأهم أن السلطة التنفيذية هى التى تقوم بتنفيذ الأحكام القضائية، ناهيك عن حقها الأول على أرض الواقع فى اقتراح مشروعات القوانين التى يوقع عليها فى النهاية رئيس الجمهورية الذى هو رئيس السلطة التنفيذية. لكل ذلك كان هذا التطور فى الفكر السياسى الذى أقر ما يسمى بالفصل بين السلطات، والعمل على التوازن فيما بينها، حتى لا تجور سلطة على سلطة أخرى، فينتج مزيد من الاستبداد الذى ينتج التخلف والبغضاء والتشاحن، الذى يؤسس للتشرذم، فيصيب الأوطان والأنظمة بأمراض لا تكون فى صالح أحد.
نقول هذا نظرًا لذلك الموقف الذى أخذ ويأخذ شكل صدام بين السلطة التشريعية والسطلة القضائية، بعد أن تقدم وكيل لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمشروع يخص السلطة القضائية، يعنى بمنح رئيس الجمهورية الحق فى اختيار رؤساء محكمة النقض، ومجلس الدولة، والنيابة الإدارية، وهيئة قضايا الدولة من بين ثلاثة مرشحين تقدمهم كل هيئة للرئيس للاختيار من بينهم، وهو ما يحدث لأول مرة فى تاريخ الهيئات القضائية، حيث إن العرف المعمول به هو أن تتقدم تلك الهيئات بأقدم النواب إلى رئيس الجمهورية كى يعتمد هذا الاختيار، ويصدر به قرارًا جمهوريًا، وهنا ما الإشكالية؟
الإشكالية أن مجلس النواب يرى أن حقه الدستورى يعطيه، بلا مواربة، الحق فى التشريع وإقرار القوانين دون غيره، على أن يوقع رئيس الجمهورية بالموافقة على المشروع القانونى، ويُنشر بالجريدة الرسمية فى حالة الموافقة عليه، وفى حالة عدم الموافقة يعود القانون إلى البرلمان لإعادة النظر فيه. وفى المقابل ترى الهيئات القضائية أن الدستور قد أعطاها الحق أيضًا فى أن تتم مناقشتها فى كل مشروعات القوانين التى تخص تلك الهيئات القضائية، حتى لا يحدث تعارض فى استقلال القضاء وحصانته وحيدته، فالبرلمان يتعامل على أنه جهة وسلطة التشريع الوحيدة، والقضاء يحاول المحافظة على حقه فى العرض والاستشارة، فهل حدث هذا العرض وتلك الاستشارة؟.
فى سياق المعلن لم يتم عقد أى جلسات استماع على أى مستوى بين القضاء ومجلس النواب، باستثناء بعض الرسائل والتصريحات الإعلامية التى لم ولن تكون طريقًا صحيحًا لمثل هذه الأمور التى يوجد فيها بعض الاختلافات فى وجهات النظر، ونظرًا لعدم حدوث التواصل بين النواب والقضاء، كان ذلك التمترس وراء الحقوق الدستورية لكل منهم، خاصة- وبوضوح شديد- أن هناك أحاديث تُطرح علانية بأن هذا التعديل يعنى سيطرت السلطات التنفيذية على القضائية عن طريق الرئيس، باعتباره رئيس السلطة التنفيذية، حتى لو كان هو الحكم بين السلطات، بالرغم من أن دستور 2014 لم ينص على ذلك. فيمكن أن يتم تجاوز الأقدم من الهيئات القضائية، على عكس العرف القضائى، ليس لشىء أكثر من أنه غير مرغوب فيه، وحتى لو لم يحدث ذلك، وحتى لو لم تكن هناك نية حقيقية لذلك، إلا أنه يمكن لهذه الهواجس أن توجد وتتزايد، بل يمكن استغلالها بالادعاء بمحاولة المساس بحصانة القضاء، ولو بطريقة غير مباشرة، كما نرى الآن فى تلك الحملات من جماعة الإخوان فى كل قنواتها ووسائلها الإعلامية، خاصة مع الإصرار حتى الآن من رئيس البرلمان، ورئيس لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية على حق البرلمان فى التشريع، وهذا صحيح وطبيعى، لكن لماذا الإصرار على عدم عقد جلسات استماع فورًا بين البرلمان والقضاء، بل مع من هم فى مستوى وقدرة الحديث والاستشارة فى هذه القضية، خاصة أنها لم تحدث بهذه الصورة من قبل، وحتى لا نحمّل الرئيس أكثر مما يحتمل فى هذه المشكلة، فهو يقول إنه لا يسعى إلى أى سلطة، بل ما يسعى إليه دائمًا هو خدمة الوطن والمواطنين، فما الحل الآن؟، خاصة أنه حتى كتابة هذه السطور لم تصدر أى بادرة تراجع أو حوار من البرلمان.
الحل فى ثلاثة محاور يمكن أن تكون مخرجًا لهذا الموقف، الأول: أن يتم طلب إعادة المداولة لمرة ثانية حول القانون، قبل التصويت النهائى عليه، بعد أن تم التصويت المبدئى عقب عرضه من اللجنة على المجلس، وبسرعة غير عادية. الثانى: أن يدخل المشروع ما يسمى بثلاجة البرلمان مثلما حدث من قبل مع قوانين أخرى، مثال قانون الجمعيات الأهلية الذى أثار وقف قراره الكثير من الجدل، ولا يزال غامضًا دون أن يتم إرساله إلى الرئاسة. الثالث: أن يتم إقرار القانون ويرسل إلى رئيس الجمهورية للتوقيع عليه، ويأتى الرفض من الرئاسة، استجابة للقضاء وموقفهم، خاصة أن الرئيس دائمًا يتحدث ويثبت التزامه بنزاهة القضاء واستقلاله، مع العلم أن الهيئات القضائية مازالت تحاول التصعيد، مما يؤزم الأمور فى مثل هذه الظروف، وتلك التحديات التى تواجه الوطن وتحتاج إلى تضافر كل الجهود، ومحاولة التوازن بين السلطات، وتلازم المسؤولية مع السلطة، حتى لا يتصاعد ذلك الموقف الذى يجعل الصدام بين السلطتين ضد مصلحة الوطن والمواطن، ويصب فى مصلحة الذين يريدون الصيد فى المياه العكرة، والذين يواصلون بكل الطرق هدم الدولة، فهل نعى ذلك؟ وهل هناك طريق للحوار الوطنى الذى يُعلى كل ما يحمى الوطن من أى خطر؟