تلك الكائناتُ الشريرة التى تكوّنت فى عالمنا فى غفلة من منظومة القيم والجمال، وتحت مظلّة الاتجّار الرخيص بالدين، طمعًا فى المغانم والسلطان، هشّةٌ وضعيفة مثل ورقة شجر يابسة، لو تعلمون. طالبان، داعش، بوكو حرام وغيرها، مسوخٌ لا قوام متينًا لها ولا هياكل صلبة تتكئ عليها، ومن اليسير هزيمتُها وإفناؤها، لو أرادت البشريةُ النظيفةُ هزيمتَها وإفناءها. تلك الخلايا السرطانية لا تهزمها الأسلحةُ والقنابل والقرارات السياسية وفقط، هناك شىء أهم وأخطر قادرٌ على سحقها. هو «الرغبة» فى سحقها، وتفعيل «الإرادة» من أجل هزيمتها.
قرأنا فى جريدة «الجارديان» البريطانية يوم الأربعاء 29 مارس الماضى خبرًا جميلًا عن طفل أسمر مليح من شمال شرق نيجيريا اسمه جوناثان. عمره الآن أربعة عشر عامًا، قبل عامين، وهو فى الثانية عشرة من عمره الصغير، ضربت بوكو حرام الإرهابية بيته بقنبلة حينما كان يجمع مع شقيقه بعض الأخشاب للتدفئة. استطاع أفراد الأسرة الهروب من شظايا القنبلة، لكن جوناثان تعثّر ولم يستطع الفرار، فتسببت الشظايا فى تمزيق ذراعه اليمنى. مكث فى المستشفى البدائى ببلدته الفقيرة مدة طويلة، أسفر العلاجُ المتدنى بها عن بتر مِرفق تلك الذراع من مفصل الكوع. وبالطبع ترك مدرسته وتفرّغ للتأقلم مع وضعه الجديد بذراع واحدة. لكن أمّه ظلّت تُمرّنه على كيفية أداء متطلبات اليوم بذراع واحدة، اليسرى، التى لم يكن لها إلا دور المساعَدة للذراع اليمنى الأساسية فى أعماله.
وفى يوم مشرق حمل للطفل طاقةً سماوية إيجابية، صحا جوناثان وقد عزم أمره على مواصلة تعليمه الذى بُتِر قبل عامين، يوم بُترت الذراعُ النحيلة. وبالفعل ذهب إلى فصله، والتقى زملاءه القدامى الذين فارقوه وسبقوه بعامين دراسيين، وانتظم مع زملاء جدد فى تلقّى دروسه بالمدرسة الفقيرة التى تركها قبل عامين. وعكف على تمرين نفسه على الكتابة باليد اليسرى، ويومًا بعد يوم، تحسّن خطُّه وشارف أن يغدو مقروءًا ومفهومًا. ربما فى مقبل الأيام يغدو جوناثان عالمًا فى الفيزياء مثل أينشتاين، أو أديبًا ذائع الصيت مثل تشينوا آتشيبى، أو فيلسوفًا مثل فرنسيس بيكون، أو حتى فلاحًا نشطًا يزرع لأهل بلدته القمح والشعير وزهور السوسن التى تضعها الصبايا فى أكاليل أعراسهن ليزددن جمالًا. لكنه دون شك لن يغدو مثلما أراد له إرهابيو بوكو حرام أن يصبح إنسانًا عاجزًا أكتعَ يتسوّل لقمته من العابرين. يحلم جوناثان أن يغدو محاميًا كبيرًا فى يوم من الأيام، وسوف يغدو بمشيئة الله وإرادة الطفل الصلبة. ربما اختار الطفلُ تلك المهنة لأنها مهنة «الحق» الذى حُرم منه، مثلما حُرمت منه كل بقعة فوق الأرض دخلها أولئك الإرهابيون سُرّاق الحياة لصوص الأرواح. حينما عقد عزمه على مواصلة تعليمه المُغتال قال كلمته الشهيرة التى اتخذتها «الجارديان» مانشيت عنوانها الرئيس: School is Good المدرسة جميلة. وأضيفُ أنا على قوله: «الإرادة جميلةٌ. حبُّ الحياة جميلٌ. عدم الخوف جميلٌ. الإصرار على هزيمة القبح والظلم جميلٌ جميلٌ جميل».
هل تذكرون الفتاة «عائشة»؟ الأفغانستانية الجميلة التى جدع إرهابيو طالبان أنفها وأذنيها قبل أعوام لأنها قالت: «لا» لزوجها الذى كان يُهينها ويضربها ويهدر آدميتها. تصدّرت صورةُ وجهها الجميل المجدوع الأنف أغلفة مجلات العالم وقتذاك. لم تخف الصبيةُ العزلاء من جحافل الإرهابيين ذوى السيوف الذين يخافهم الرجال ذوو الشوارب، ولم تخجل الفتاةُ النحيلة من أنفها الغائب الذى بتره زعيم طالبان المجنون. بل سافرت بدون أنف إلى دول تحترم الإنسان، وتقدّس حقّه فى الحياة، وأكملت مشوار حياتها، والرعبُ لا يعرف لقلبها طريقًا.
ثمة سلاح ماضٍ فى يد كل مخلوق من بنى الإنسان، اسمه سلاح «الإرادة». نُهزَم فقط حين نفقده، وليس حين يُشهر الظالمُ سلاحه فى وجوهنا. تلك المسوخ الإرهابية التى تملأ الدنيا من حولنا صخبًا وضوضاءَ، يستمدون قوتهم من ضعفنا نحن، ومن تسليمنا قوادنا لأياديهم السوداء. دون ضعفنا نحن، هُم ضعفاء، وبقدر قوتنا فى مواجهتهم وإصرارنا على التمسّك بحقوقنا، نكتشف كمَّ هشاشتهم وخوائهم وضعفهم.
ستظلُّ أنفُ عائشة المجدوعة فى أفغانستان، وذراع جوناثان المبتورة فى نيجيريا، وأُذن أيمن ديمترى المقطوعة فى مصر، شواهدَ حيّةً على بطش الإنسان بالإنسان، فقط لأن أحدهما يملك خنجرًا وجبروتًا، والآخر أعزلُ ضعيفٌ لا حول له ولا قوة! والمدهش والمُخجلُ والمُهين دائمًا، أن الباطشَ يبطش ملوّحًا بكارت الدين، وباسم السماء الراقية الحنون، تلك التى- دون شك- تبكى على ما نفعله، نحن البشر، على أرضها! تتألم السماءُ حين ترى الإنسانَ الذى كرمه اللهُ تعالى يُسيّد قانونَ «البقاء للأقوى» الذى يحكم ممالكَ الغابة وعشوائيات الهمجية! لكن تلك السماء ذاتها تفرح وتفخر بنا حين تجدنا أقوياء ذوى بأس وإرادة وعزم، لا نتنازل عن حقوقنا التى منحها اللهُ لنا لنحيا فوق أرضه كرامًا أعزّاء. نقبضُ على قواد حياتنا، ونعتلى صهوة إرادتنا ورغبتنا الصلبة فى مواجهة القبح، بسيف الجمال، ودحر الظلم بإشهار صكوك حقوقنا فى وجه الظالم.