زيارة البابا فرنسيس المقبلة لمصر لها معنى خاص، البابا يختلف عن معظم الباباوات الذين جلسوا على كرسى روما طوال القرن العشرين، يتخطى دائما البروتوكولات الفاتيكانية، ولا تنطبق عليه التحليلات التى تتعامل معه على أنه فقط رئيس الكنيسة الكاثوليكية.. أكبر كنيسة فى العالم.. بل قديس معاصر تم تطويبه فى حياته من الفقراء والمهمشين واللاجئين وضحايا الحروب، ومن ثم يجب التعامل قبل كل شىء على البركة التى ستحل على مصر وشعبها بزيارته المباركة.
على الجانب الآخر لا يمكن الخلط بين السياسة وبين تلك الزيارة، ولا حتى بما كان يطرح من قبل بعض «المحللين» حول أن الزيارة تدحض الصدام بين الإسلام والمسيحية، لأن تلك العلاقات بين المسيحية الكاثوليكية والإسلام متفردة وحسمت منذ المجمع الفاتيكانى الثانى فى مطلع ستينيات القرن الماضى بالحديث عن المسلمين «كأصحاب عقيدة تؤمن بالله»، هذه الزيارة سيكون لها أبلغ الأثر كعلامة فارقة لإنهاء «المحبة الباردة» بين المذاهب المسيحية المختلفة، خاصة أنه على رأس كنيسة الإسكندرية الأرثوذكسية بطريرك يتمتع بورع خاص ومحبة خلاقة البابا تواضروس الثانى، ومن ثم الحدث الأول هو اللقاء التاريخى بين كرسى روما وكرسى الإسكندرية الذى أتنبأ بأنه سيضع حجر الأساس للمضى نحو «محبة الكنائس» التى هى البديل الحقيقى للشعار السياسى «وحدة الكنائس».
اللقاء بين البابا فرنسيس وفضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب، لن تكون من وجهة نظرى على أرضية الماضى، بل تتخطى بحر الدماء الداعشى، وتبحر نحو إرساء قواعد روحية وليست بروتوكولية بين الأزهر والفاتيكان، بقدر ما سوف تذيب حرارة محبة البابا الجليد بين أكبر مؤسسة للسنة فى العالم وأكبر مؤسسة للمسيحيين فى الكون، ستكسر تلك الزيارة «الحلقة المفرغة» لكل «فقه التكفير»، وتسقط حجج «المكفراتية».. وتفعل فعلها من جبال طورا بورا وحتى العديسات.
يبقى اللقاء بين الرئيس عبدالفتاح السيسى والبابا فرنسيس، وبعيدا ما سوف يقال سياسيا، إلا أن ذلك اللقاء يمثل لقاء مصر قلب الشرق الأوسط ورمز روحى للغرب، مكانة مصر المكافحة ضد الإرهاب سوف تتضافر مع رأس العالم الجديد فى مواجهة الإرهاب وتعطى مؤشرا حقيقيا للتسامح فى وطن يئن من المتطرفين، خاصة أن الزيارة تعقب زيارة السيسى لأمريكا زعيمة العالم الغربى، ومقابلة أبو مازن والملك عبدالله والحوار حول السلام فى الشرق الأوسط تحت مظلة أمريكية، ومن ثم تأتى زيارة البابا فرنسيس كزعيم روحى للعالم لإضفاء بركة على عملية السلام، الأمر الذى نستشفه من بيان المتحدث الرسمى للرئاسة عن الزيارة السفير علاء يوسف، قال: «مصر تعرب عن ترحيبها بضيفها الكبير، وتؤكد تطلعها لأن تسهم تلك الزيارة المهمة فى ترسيخ رسالة السلام وتعزيز روح التسامح والحوار بين كل البشر من مختلف الأديان فضلاً عن نبذ خطاب الإرهاب والتعصب وممارساته الآثمة».
وتابع المتحدث بالقول إن السيسى «يكن تقديراً كبيراً لشخص بابا الفاتيكان ومكانته المعنوية والروحية ومواقفه الشجاعة تجاه القضايا الدولية، حيث لمس سيادته هذه القيم النبيلة خلال لقائه مع قداسة بابا الفاتيكان فى المقر البابوى فى نوفمبر 2014».
رئيس اللجنة المنسقة للزيارة للكنيسة الكاثوليكية المطران الأنبا عمانوئيل قال: إن قداسة البابا فرنسيس فى 29 إبريل الجارى سوف يقيم قداسته القداس الإلهى فى العاشرة صباحا، وأضاف أن قداسته سيقيم فى الثالثة عصرا لقاء صلاة مع رجال الإكليروس، والرهبان والراهبات وسيلقى كلمة وستعقبها مراسم الوداع، وسيتوجه قداسته فى الخامسة إلى مطار القاهرة للعودة إلى روما، من جهة أخرى، المؤكد أن قداسته سوف يقيم القداس الإلهى فى استاد القاهرة، حيث يعمل الآن مسؤولو الاستاد برئاسة اللواء على درويش، على تجهيز الصالة المغطاة من حيث الإضاءة، وتجهيز المداخل والمخارج للمشاركين فى القداس، تربط مصر بالفاتيكان علاقات ودية تاريخية ومستقرة منذ تبادل تلك العلاقات بين الدولتين فى 23 مايو 1947، ومنذ ذلك التاريخ يجمع مصر بالفاتيكان السلام خاصة قضية الشرق الأوسط المركزية فلسطين والقدس، والحوار بين الأديان، والمحافظة على البيئة ومكافحة الإرهاب.
التنسيق بين مصر والفاتيكان على الصعيد الدينى نشأ فى 28 مايو 1980، اللجنة المشتركة للحوار بين الأزهر الشريف والمجلس البابوى للحوار بين الأديان، كانت أول زيارات البابوات لمصر، كانت زيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثانى لمصر 24 فبراير 2000، التى اكتسبت بعدا تاريخيا، والتقى خلالها بالرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، وقداسة البابا الراحل شنودة الثالث، وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوى، تلك الزيارة التى دعمت السلام والحوار بين الأديان، وأهمية التواصل بين الطوائف المسيحية.
كان الرئيس الأسبق مبارك قد زار الفاتيكان 2006، فى حين جاءت زيارة الرئيس السيسى للمقر البابوى 24 نوفمبر 2014، حيث اجتمع مع البابا فرنسيس، وأكد الجانبان على أهمية عودة الحوار بين الأزهر والفاتيكان، عن طريق إعادة تفعيل لجنة الحوار المشترك، على إثر ذلك قام د. أحمد الطيب شيخ الأزهر فى 22 مايو 2016، بزيارة بابا الفاتيكان فى زيارة تعد الأولى بين المؤسستين العريقتين من أجل نشر الحوار والتعايش السلمى بين الشعوب. الأهم أن بسطاء المسيحيين والمسلمين المصريين الذين لن يسعفهم الحظ بلقاء البابا فرنسيس سوف يتابعون هذا الحدث الكبير روحيا بعيدا عن «المكفراتية» و«المحللاتية» و«المطبلاتية»، سوف يتعاملون على أنهم يأخذون البركة مع قديس برتبة بابا.. ومبارك شعب مصر ورئيس مصر وكنيسة مصر.