أنكر الفدائى البطل محمد مهران معرفته بالفدائيين، وهدده مجموعة الضباط الإنجليز الذين التفوا حوله فى القاعدة العسكرية البريطانية فى قبرص، قالوا له: قل كل شىء وإلا فستعرض نفسك لأشد العقوبات، فأنت تعرف عدد خسائرنا فى «الجميل»، رد عليهم: أنا مصرى وأعرف كيف أدافع عن بلادى، وأى معتدٍ لابد أن يدفع الثمن، فرد الضابط الإنجليزى: «وأنت أيضا ستدفع الثمن، وحكمنا عليك باقتلاع عينيك ثمنا لما فعلت».
أصدر الضباط الإنجليز هذا الحكم الغريب ضد مهران، فى نفس الوقت الذى كانت فيه قوات العدوان الثلاثى «بريطانيا، فرنسا، إسرائيل» تواصل عربدتها بالعدوان فى بورسعيد، وكان الفدائيون الأبطال من المدنيين وتحت قيادة المخابرات العامة ينظمون أعظم مقاومة، ويقدمون الشهداء، ويسجلون بطولاتهم بحروف من نور، وكان الحكم الوحشى باقتلاع عين مهران نموذج لعطاء وطنى من بطل يقدم كل شىء بلا مقابل.
يتذكر «مهران»، يرقد الآن على فراش المرض، كيف كان رد فعله على ما قاله الضابط الإنجليزى: «قلت له أنا فدائى مصرى ولست جبانا، فسألنى: ومن الجبان؟ فقلت: من يحكم على إنسان مثله باقتلاع عينيه، حملونى على نقالة ونقلونى إلى مكان آخر ورمونى على الأرض وبدأوا يطفئون السجائر فى جسدى، ويضربوننى ويلوون ذراعى ويعذبوننى بالكهرباء، ثم تركونى وجاءنى أحدهم ليحدثنى عن الفرق بين الأعمى والبصير، فانتبهت إلى الكلام الذى قيل لى من قبل، وسألنى: هل تحب أن تكون أعمى؟ فقلت: لا يوجد إنسان يتمنى أن يكون أعمى، فقال: اتفقنا ولدينا ضابط أصيب بنيران مدفعك مما أفقده عينيه ولحظك السيئ ما زال على قيد الحياة، وقد حكمنا عليك بنزع عينيك لزرعها له، فسألته: هل أنت الطبيب المكلف بالعملية؟ فقال: نعم ولكن قبل ذلك أنا وسيط بينك وبين القيادة التى حكمت عليك».
بدأ الطبيب فى نقل العرض المكلف به إلى «مهران» وهو، انتزاع عين واحدة منه بدلا من الاثنين، ليتم زرعها فى عين الضابط الإنجليزى المصاب ليرى بعين واحدة، وتصور الطبيب أنه يقدم فرصة مغرية إلى مهران لن يكون أمامه غير قبولها حتى يبقى بعين واحدة، وأمام ما ظنه الطبيب بأنه «فرصة مغرية» طرح شروطا لتنفيذ الصفقة وهى كما يقول مهران: «الرد على الأسئلة التى رفضت الإجابة عليها من قبل، وأن أسجل صوتى حديثا أشرح فيه ترحيب الشعب فى بورسعيد بالإنجليز، وأن انتقد السياسة فى مصر».
بعد أن أنهى الطبيب عرضه بشروطه، قال لمهران: «سأعطيك فرصة لتفكر إما أن تختار الإبصار أو العمى»، وتركه لإخصائى التعذيب، وعلينا أن نتخيل ماذا يعنى الترك لإخصائى التعذيب وهو ما يلخصه مهران فى كلمات قليلة: «عاد الطبيب ليجدنى فى عداد الموتى»، وتؤكد لنا هذه الكلمات أن «مهران» تعرض لصنوف بشعة من التعذيب لإجباره على قبول صفقة «اقتلاع عين واحدة»، وإن لم يوافق عليها فيتم اقتلاع العينين، ومن شدة قسوة التعذيب فكر مهران فى أن يوهم الطبيب بالموافقة على ما طلبه، ليتركه إما للموت أو الحصول على قسط من الراحة.
كانت عودة الطبيب نوعا من الظهور السريع، أعقبه ظهور ثانى ومعه أربعة آخرون، ووضعوا جهاز تسجيل، وقال أحدهم: «نحن الآن فى قبرص ومعنا الشاب المصرى محمد مهران سيتحدث عن السياسة الفاشلة فى مصر والاستقبال الرائع من الشعب المصرى للقوات البريطانية، ثم أشار إلى مهران كى يتكلم، فماذا تكلم مهران؟
نتابع غدا