يخطئ بعض الناس حين يظنون أن أحكام المسائل الفقهية التى تعرض لهم فى أمور معاشهم ثابتة منذ بدء التشريع الإسلامى وما تلاه من عصور، ويخطئ بعضهم الآخر حين يظن أن مرونة الشريعة تعنى أن جميع أحكام المسائل تقبل التغيير متى رأى الناس ذلك. ولتوضيح هذا الأمر نقول إن شريعتنا الإسلامية جمعت بين الثابت والمتغير، ووضعت القواعد الضابطة لتغير الفتوى مراعاة للزمان والمكان وأحوال الناس وما يجد فى حياتهم.
والأحكام التكليفية التى تندرج تحتها جميع المسائل المتعلقة بأقوال الناس وأفعالهم فى أبواب الشريعة كلها سواء العقيدة أو العبادات أو المعاملات، والمعروفة بالأحكام التكليفية الخمسة عند الجمهور أو الستة عند الحنفية، وإن كان التطبيق العملى يشهد لتقسيم الحنفية؛ حيث يفرقون بين الفرائض والواجبات- هذه الأحكام التكليفية تنقسم إلى قسمين: ملزم للمكلف وهو الفرائض والمحرمات، وقسم مخير له وهو المستحب والمباح والمكروه. وهذا التقسيم من حيث العدد يجعل تخيير العبد بين متعلق ثلاثة أحكام، بينما يقتصر إلزام العبد على متعلق حكمين اثنين فقط، وتلك أمارة من أمارات التيسير فى الشريعة الإسلامية.
والناظر إلى ما يندرج تحت الثابت الملزم للمكلف يرى أنه محصور ومعدود، وهو ما يندرج تحت متعلق الحكمين اللذين يكون العبد فيهما ملزمًا، فالفرائض خمسة، هى أركان الإسلام، وقد جمعها رسولنا الكريم-صلى الله عليه وسلم- فى حديث واحد قال فيه: «بُنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا».
وعلى الرغم من أن هذه الفرائض تلزم العبد المسلم ولا خيار له فى ترك واحدة منها متى كان من أهلها، وتحقق فيه شرط التكليف بها؛ فإنه من باب التيسير على العباد فقد أجاز لهم الله تعالى تأدية معظم هذه الفرائض على نحو معين فى أحوال معينة، وهى رخص من الله تعالى لعباده، والله عز وجل يحب أن تؤتى رخصه، فالصلوات الخمس يجوز تأديتها بصفة معينة كالقعود مثلًا أو بصفة أخرى تناسب حال المسلم وتراعى قدرته إذا كان مريضًا، ويجوز أن يؤديها قصرًا وجمعًا إذا كان على سفر، ولا زكاة على الفقير، وقد رخَّص الله كذلك للمسافر أو المريض فى صيام رمضان، وإن عجز المسلم عن أداء الحج لسبب ما لم يلزمه، وغير ذلك من الأحوال والرخص التى لا يناسب تفصيلها هذا المقام.
والنوع الثانى من القسم الملزم للمكلف هو المحرمات، وهى محصورة يسهل عدها، وإن كان عددها أكثر من الفرائض، كالشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والسرقة، والزنى، وعقوق الوالدين، والغيبة والنميمة، وقطع الرحم... إلخ.
أما القسم الثانى من قسمى الأحكام التكليفية، وهو المخير للمكلف بين الفعل والترك، فهو على تفاوت بين الأحكام الثلاثة المستحب والمباح والمكروه؛ ففى المستحب يفضل الفعل على الترك، كالتصدق تطوعًا لما فيه من مواساة المحتاجين ومساعدتهم، فضلًا عن الثواب الذى يعود على المتصدق، وكصلاة النوافل لما فيها من رفع درجات مؤديها.
ويترجح الترك على الفعل فى المكروه، كالصلاة وقت شروق الشمس أو عند توسطها فى السماء، أو ما يسمى بوقت الزوال الذى يكون قبيل الظهر أو الغروب، ومن ذلك أيضًا أكل الشبعان، وشرب الريان، وترك التطوع بالخير.
ويستوى الفعل والترك فى المباح، وهو ما لا يُثاب فاعله ولا يأثم تاركه، كقيام الشخص أو جلوسه أو نومه أو غير ذلك من الهيئات التى يكون عليها فى الحالات التى لا يكون مطالبًا بصفة معينة فيها كالصلاة التى يلزم العبد فيها القيام والركوع والقعود والسجود، إن لم تكن هناك علة مانعة من أدائها على هذا النحو.
وما يندرج من المسائل والفروع تحت هذا القسم الذى يكون فيه العبد مخيرًا بين متعلق أحكام ثلاثة «المستحب والمباح والمكروه»، هو أكبر من قدرة الحاصر على حصره، وهذه أمارة أخرى من أمارات التيسير فى شريعتنا الإسلامية الغراء.