قد لا يكون من الموضوعى الحديث عن شخصية أمريكية وسط هذه التعددية المغرقة فى التعقيد. حيث الانتماء لا يتوزع على محور الأصول العرقية أو اللغوية أو التاريخية بل تضاف إليه محاور أخرى يتعلق أهمها بتاريخ الهجرة والمدة الفاصلة بينه وبين الراهن. ناهيك عن محور التصنيف الطبقى الذى يصنف الجماعات الأمريكية وفق دخلها السنوى.
مع ذلك يبقى تحليل هذه الشخصية ممكنًا، بسبب اعتمادها قالبًا «سلوكيًا نمطيًا» هو ذلك المسمى بنمط الحياة الأمريكية.
وهو قابل للتحليل خاصة مع غياب الفروقات العقائدية العميقة. حيث يميل التحليل إلى تصنيف القوالب السلوكية الجامدة فى خانة العصاب السلوكى.
حيث يعرف التحليل النفسى هذا العصاب كالتالى: «أنه من الأعصبة الراهنة «أى أنها لا تعود إلى عقد فى صلب الشخصية» التى تتأتى عن تجارب سلبية تدفع بالشخص إلى الاعتياد على تنفيذ رغباته وممارسة غرائزه دون إخضاعها لسيطرة أو مساهمة الجهاز العقلى. ويدل ذلك على أن الوظائف النفسية لدى هذا النوع من العصابيين لم تتوطد بشكل ثابت وراسخ». هذه أبرز نقطة فى تشريح الشخصية الأمريكية بكل مكوناتها وتركيباتها وتنوعها، وذلك من خلال الدراسة التى نشرها العالم «غورير» من خلال كتابه المعنون: Gorer.G: The American People,A Study in National Character, W.W. Norton,N وهى الدراسة الأولى التى غاصت فى الشخصية الأمريكية.
ولدى مراجعتنا لنمط الحياة الأمريكى نجده ينتمى تحديدًا إلى هذا النوع من العصاب. إذ تمت تربية المواطن الأمريكى حتى لا يهتم إلا بما يعود عليه بالمنفعة. أما العقل والجهاز العقلى فهما صندوق أسود يستحسن عدم الخوض فيه. وهذه ليست تهمًا نسوقها جزافًا، إذ أن إحصاءات الثقافة العامة لدى المواطن الأمريكى هى خير داعم لهذا التشخيص. الذى يتدعم أيضًا من خلال الخضوع الكلى للجمهور الأمريكى للإيحاءات الإعلامية.
وحسبنا هنا التذكير بضآلة المعلومات العامة الفضائحية فى المقابلة التليفزيونية التى أجراها ووكر بوش وهو بعد مرشح.
إذ أنه كان يسعى إلى رئاسة أقوى دول العالم دون أن يملك المعلومات العامة التى يحتاجها أى متسابق فى برنامج ألعاب تليفزيونى.
بهذا نصل إلى السؤال عن المستقبل الأمراضى لهذا العصاب السلوكى، حيث تشير الأبحاث التحليلية إلى أنه يتسبب فى الإصابة بالأمراض الجسدية وليس النفسية. وعليه فإن هذا العصاب يمكنه أن يفسر أسباب ارتفاع نسب الإصابة بالأمراض السيكوسوماتية فى المجتمع الأمريكى. حتى أطلقت عليها تسمية أمراض العصر. بل إن هذا العصاب الجماعى يمكنه أن يفسر لنا التفاوت فى معدل الأعمار، وفى معدل السن المنتجة بين اليابان والولايات المتحدة.
هذا على الصعيد الفردى، أما على صعيد المجتمع فإن انعكاسات هذا العصاب تتجلى بعدم نضج الوظائف النفسية الذى ينعكس بعجز الجمهور الأمريكى عن تعقيل أى موقف يتجاوز المنفعة الفردية، ويضحى بها لأجل الصالح العام.
وتتبدى آثار هذا العجز ببحث المواطن الأمريكى عن الوفرة وهروبه من التضحيات مهما كان الثمن. ذلك أن فلسفة المنفعة امتدت إلى الانتماء. الذى أصبح مرتبطًا بالنفعية. فإذا أصبح هذا الانتماء مكلفًا ماديًا أو معنويًا، فإن الجمهور مستعد للتخلى عنه دون تردد. من هنا يمكن اعتبار التظاهرات الأمريكية ضد حرب فيتنام وكوسوفو كما ضد العولمة بمنزلة انعكاس لوهن الانتماء وليس للديموقراطية كما يحلو للإعلام الأمريكى تسويق هذه الحوادث.
لقد فشلت الشيوعية والقومية والنازية وغيرها من الأيديولوجيات وأوحى موتها، أو سقوطها، عبر الإعلام، لكن السؤال يطرح عما إذا كان الجمهور الأمريكى مستعدًا للبقاء ليوم واحد فى الولايات المتحدة لو هو تعرض لما تعرضت له الشعوب التى طلب منها أن تضحى فى سبيل هذه الأيديولوجيات؟. إن الانتماء للأمة الأمريكية أضعف من ذلك بكثير لكونه مرتبطًا بالوفرة والرخاء بصورة صريحة وفجة. من هنا عجز الجمهور الأمريكى عن فهم المظاهرات التايوانية التى قامت ضد حليفها الأمريكى ودعمًا لعدوها فى البر الصينى. فقد أيقظ ضرب السفارة الصينية المشاعر القومية لدى جمهور الصين الوطنية «تايوان»، فدفعها حسها القومى للتضحية بمصالحها مع الأمريكى ولنصرة الأخ الصينى! وهذا ما لم يفهمه الأمريكيون حتى اليوم.
أيضًا فإنهم عاجزون عن فهم تضحية العرب بالسلام وبالمفاوضات بسبب مساحة بسيطة من الأرض!. فما بالك بقدرتهم على استيعاب تفضيل الشعوب العربية للعيش فى ظروف فقر وإفقار قاسية على الوفرة والرخاء إذا كانت على حساب كرامتهم القومية؟
بعد هذه المقارنات هل يمكن للجمهور الأمريكى أن يتحمل مجرد التهديد بتراجع وفرته المالية؟ وفى حال اقتراب مثل هذا التهديد هل يوجد ما يمكنه أن يمنع الجماعات الأتنية الأمريكية من التقاتل فيما بينها للحصول على حصة أكبر؟ ثم ألا يفسر هذا انفجار أوكلاهوما الذى قام به نازيون أمريكيون معادون للحكومة الفيدرالية لتبعيتها لليهود وفق رأيهم. وهذه الأسئلة تعيد طرح مستقبل الموزاييك الأمريكى ولحمته فى ظل أزمات اقتصادية يبدو أنها لم تعد مستبعدة الحدوث وللحديث بقية غدًا إن شاء الله تعالى.