قلنا إن نمط الحياة الأمريكى يقوم على استبدال محركات الشخصية بقوالب أو بأنماط سلوكية محددة يمكن للأشخاص اعتمادها وتبنيها بمعزل عن الشخصية الأساسية، مما يحفظ للفرد عالمه الداخلى ويقولب تصرفاته وعلاقته بالآخرين وفق شروط محددة ومقبولة، وبذلك كانت الأقليات الأمريكية تخوض كفاحها من أجل توسيع إمكانيات أنصهارها فى البوتقة الأمريكية، والسماح لها باتباع هذه الأنماط وتوفير الشروط لذلك، لكن تغييرات عميقة تنامت مع الوقت مدعومة بالظروف وآخرها سقوط الاتحاد السوفياتى، ففى البداية كانت الجماعات الأمريكية ساعية للانصهار، لكن بعضها كان يتميز بحس انتماء متطور جعلها تبقى مصرة للحفاظ على خصوصياتها، ومن هذه الجماعات اليهود «يصرون على الانغلاق بوصفهم الشعب المختار»، والصينيون «بسبب تطور حسهم القومى»، هذا ما أشارت إليه الدراسة المنشورة فى هذا المجال للعالم «غورير» كتابه المعنون: Gorer.G: The American People,A Study in National Character, W.W. Norton,NY,1948.
فى هذه الدراسة يشير إلى الفقراء المنعزلين فى إحياء الصفيح من لاتينيين وأفارقة وغيرهم، إلا أن الأمور تعقدت بعد نهاية الحرب الباردة بحيث باتت فضائح الاستغلال اليهودى للحكومة الفيديرالية سببا لانبعاث حركة الميليشيات الأمريكية البيضاء، فى المقابل وجدنا أن بحث أمريكا عن عدو دفعها للتصادم مع بلدان المنشأ للعديد من جماعاتها، فهى اصطدمت مع الصين «حادثة السفارة فى بلغراد وطائرة الاستطلاع... إلخ»، ومع دول الأطلسى «عبر ابتزاز حرب كوسوفو وتضارب المصالح الاقتصادية»، ومع دول أمريكا اللاتينية ومع أفغانستان والدول العربية وإيران... إلخ، بحيث أدت هذه الأحداث المتراكمة والمتسارعة إلى استشعار هذه الجماعات ضرورة إحياء خصوصياتها، والتجمع بشكل جماعات ضغط «لوبى» شبيهة باللوبى اليهودى، وينعكس ذلك عمليا بفقدان الولايات المتحدة التدريجى لأهم مقومات نمطها وهو اللغة الإنجليزية التى بدأت بالتراجع لتدخل فى منافسة مع الإسبانية خصوصا «ومع لغات أخرى عموما».
هذه الملامح الانشطارية غير قابلة للتجاهل بسبب خلفية الحرب الأهلية الأمريكية، إذ يشير الاستقراء إلى كون الحرب الأهلية نوعا من الفصام «الشيزوفرانيا» غير القابل للشفاء، لأنه يعاود ولو بعد حين، وبأن علاجه الوحيد هو الوفرة الاقتصادية التى ما زالت الولايات المتحدة تؤمنها لمواطنيها، وتأمين هذا العلاج يستبعد الحرب الأهلية لكنه لا ينفى علائمها «مظاهر التفكك بلغة الاختصاص»، ومن أبرز هذه العلائم نذكر الحوادث التالية:
1 - الحوادث العنصرية فى ليتل روك العام 1957 التى اضطرت الجيش الأمريكى للتدخل فيها ضد سلطات الولاية وقضائها، مما وضع الليبيرالية الأمريكية والقضاء ومبادئ الحريات الأمريكية فى موقف شديد الحرج. وعرض مصداقيتها محليا» وعالميا» للشك.
2 - حوادث لوس أنجلوس العنصرية التى اندلعت إثر اعتداء شرطى أبيض على مواطن أسود، وتسجيل الحادثة على شريط فيديو، الأمر الذى استتبع حوادث عرقية تضمنت التمرد والنهب وإشعال الحرائق.
3 - حوادث مدينة سينسيناتى فى ولاية أوهايو التى اندلعت فى 7/4/2001 والتى استمرت لبضعة أيام تخللها النهب والشغب، مما اضطر سلطات الولاية للجوء إلى أساليب عنفية وإلى حظر التجول كى تتمكن من السيطرة عليها وعلى الشغب فى أحياء السود الثائرين لقتل جندى ابيض للأسود تيموثى توماس، وجاءت هذه الحوادث بعد سلسلة من الاعتداءات التى ارتكبها بيض بحق مواطنين سود فى تلك الولاية. وتكرار هذه الحوادث العنصرية منذ 1957 وحتى اليوم هو مؤشر على وجود مظهر تفككى قابل للانفجار فى البنية الأمريكية.
4 - انفجار أوكلاهوما «1995» الذى قامت به حركة الميليشيات الأمريكية البيضاء، فى محاولة لإظهار عدم رضاها عن الحكومة الفيديرالية. وإعلان خروجها عن طاعة الحكم الأمريكى الذى تعتبره هذه الميليشيات تابعا» لليهود.
5 - هوس التسلح الأمريكى، وأحد أبرز آثاره الجانبية جرائم المدارس، حيث سجلت عشرات الحوادث التى قام بها أطفال مدارس بقتل رفاقهم، فى حوادث قتل جماعية.
6 - العمليات السوداء للمخابرات الأمريكية، وهى قد رافقت الوكالة منذ إنشائها ولغاية اليوم، وقد سميت بالسوداء نظرا لتعارضها مع المبادئ الليبيرالية المعلنة، وهى تعكس مظاهر فصامية، تفككية، إذ تشير لاضطرار الحكم الأمريكى لتجاوز قوانينه.
7 - الاغتيالات التى تطال الرؤساء الأمريكيين وبعض مقربيهم، وتطول القائمة منذ اغتيال لنكولن ولغاية محاولة اغتيال ريغان، وهذه الاغتيالات تبقى فى غالبيتها غامضة بما يبرر اعتبارها نوعا «من الانقلاب على السلطة، مما يضع الولايات المتحدة فى موقف لا يختلف كثيرا عن موقف أمريكا اللاتينية خلال فترة الانقلابات المتتابعة.
8 - العقدة الفيتنامية غير القابلة للشفاء كونها سجلت أولى الهزائم الأمريكية، بعد أن تسببت بانشطار الرأى العام الأمريكى بين مؤيد ومعارض لهذه الحرب، وهذا المظهر التفككى لا يزال يعاود الظهور فى القضايا العسكرية، حيث اضطر بوش الأب لتوريط كل أصدقاء أمريكا فى حرب الخليج. كما اضطر كلينتون إلى تجنب الإنزال البرى فى كوسوفو. وهذا الخوف يختزل كل المخاوف الأمريكية الكامنة وراء الإصرار على تراث الكاو بوى ومعه امتلاك الأسلحة الفردية بحرية الذى أيده بوش الابن بصفته محافظا «مهتما»، بهذا التراث ومنتميا إليه، وهو انتماء قد يفسر مسارعة المحافظين للتورط فى استعمال القوة، وللحديث بقية غدا إن شاء الله.