ذكرنا فى المقالة السابقة أن الشريعة الإسلامية ليست جامدة، وإنما هى مرنة بما يسهم فى التيسير على الناس ويراعى أحوالهم ويواكب ما يستجد فى حياتهم، وهو ما جعل الدين الإسلامى هو الدين الخاتم الصالح لكل زمان ومكان. وبيَّنا أن ما يندرج تحت الثابت من الأحكام التكليفية محصور ومعدود، حيث يتمثل فى عدد من الفروض والمحرمات المقطوع بها حكمًا ونصًّا، وأن ما يندرج تحت المتغير فى شريعتنا الإسلامية كثير جدًّا بحيث يتعذر حصره.
وإذا كان الثبات والتغير يأتى من جهة الأحكام التكليفية التى تندرج تحتها تصرفات العباد، فإنهما مؤسَّسان على طبيعة النص الذى تُستنبط منه الأحكام الشرعية، ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تنقسم من حيث الثبوت والدلالة إلى أربعة أقسام إجمالًا، وهى: قطعية الثبوت والدلالة، وظنية الثبوت والدلالة، وقطعية الثبوت ظنية الدلالة، وظنية الثبوت قطعية الدلالة، وهذه الأقسام الأربعة فيها تفصيل كثير لا تناسبه هذه الزاوية.
ولا شك أن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة قطعية الثبوت، وهى، مع قطعية ثبوتها، تنقسم إلى قسمين من جهة دلالتها على الأحكام التى تُستنبط منها: القسم الأول: ما يفيد الحكم على سبيل القطع، أى أنه لا يحتمل إلا هذا الحكم، ولا يقبل اجتهادًا من أحد مهما بلغ من العلم، وهو المراد بقول العلماء: «لا اجتهاد مع النص».
ومن هذا القسم الآيات والأحاديث التى تدل على فرضية الصلاة والصيام والزكاة والحج، وتحريم الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والسرقة، والزنى، وعقوق الوالدين، والغيبة والنميمة، وقطع الرحم... إلخ. ولذا، فقد اتفق العلماء سلفًا وخلفًا على أحكام هذه الأمور، وأنها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان ولا المكان ولا أحوال الناس.
أما القسم الثانى، فهو ما يفيد الحكم على سبيل الظن، أى أن هذا النص القرآنى أو النبوى الصحيح قطعى الثبوت ليس صريحًا فى دلالته على حكم ما، وهذا القسم هو ما يمكن أن يجتهد المجتهدون الذين يملكون مؤهلات الاجتهاد وأدواته فى الحكم الذى يدل عليه، ويمكن لهم أيضًا أن يختلفوا فى الحكم المستنبط منه من باب التيسير على المكلفين ومراعاة أحوالهم، وذلك لورود النص بصيغ لغوية تقبل تعدد المعانى المستفادة منها.
ومن النصوص التى تدخل تحت هذا القسم قوله تعالى فى آية الوضوء: «وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ»، فدخول «الباء» التى تكون عند اللغويين زائدة ولا تفيد شيئًا من حيث المعنى أحيانًا، وأحيانًا أخرى تكون عاملة وتفيد التبعيض، جعل الفقهاء يختلفون فى الممسوح من الرأس بين من قال بمسح الرأس كله على الاعتبار الأول للباء، ومن قال بمسح بعض الرأس على الاعتبار الآخر، فذهب المالكية إلى مسح الرأس كله، وقال الجمهور بمسح بعض الرأس فقط، ولما كان «بعض» الشىء يصدق على الكثير من أجزائه وعلى القليل أيضًا، فقد رأى الحنفية مسح ربع الرأس على الأقل، لأن ما دون الربع قليل لا اعتبار له، وذهب الشافعية إلى مسح أى جزء وإن قل.
ومن هذه النصوص أيضًا قول الله تعالى فى عِدة المطلقة: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ»، حيث إن لفظ «القرء» يطلق لغة على كل من الطُّهر والحيض، ولما كانت دلالة اللفظ على أحدهما دلالة ظنية وليست قطعية، فقد أخذ بالحيض بعض الفقهاء، وبالطُّهر أخذ بعضهم الآخر، ومن ثم كان الاختلاف فى مدة العدة التى تحل بعدها المطلقة للزواج.
ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة التى هى ظنية الدلالة على الأحكام أكثر بكثير من النصوص التى تدل على حكم واحد على سبيل القطع. وهذا القسم ظنى الدلالة لا حرج على من امتلك أدوات النظر والاجتهاد من قدح زناد فكره فيه بعد اطلاعه على ما ذكره السابقون حوله، ولا إنكار عليه إذا توصل إلى معنى جديد يناسب الزمان والمكان، ويراعى أحوال الناس وما يستجد فى حياتهم، دون أن تأباه قواعد اللغة، أو يتصادم مع ما أفادته نصوص أخرى قطعية الدلالة فى ذات الموضوع؛ وذلك لأن هذه النصوص ظنية الدلالة على الأحكام المستنبطة منها سواء كانت نصوصًا قرآنية أو نبوية صحيحة، هى محل اجتهاد العلماء القادرين على الاجتهاد، وهى مدخل من مداخل التجديد، حيث يجوز للمفتى أن يتنقل بين الأحكام التى يدل عليها النص ظنى الدلالة للإفتاء بما يراعى حال السائل ويناسب زمانه ومكانه، أما النصوص قطعية الدلالة فأحكامها ثابتة مهما تغير الزمان أو اختلف المكان أو تبدلت أحوال الناس.
وتجدر الإشارة إلى ضرورة مراعاة أن الأحكام المستنبطة من النصوص سواء كانت قطعية أو ظنية، لا تختلف من حيث وزنها الشرعى بالنسبة للمكلف، فما على المكلف إلا الامتثال للحكم على الوجه الذى يفيده النص، فإن كان النص قطعى الدلالة لم يكن للمكلف خيار، بل يلزمه الامتثال للحكم المستنبط منه على هذا الوجه دون سواه، أما إن كان ظنى الدلالة جاز للمكلف عندئذ الامتثال لأى من الأحكام التى دل عليها النص، ويكون بذلك مساويًا لمكلف آخر امتثل لحكم آخر استنبطه مجتهد أو مجتهدون آخرون من النص نفسه، شريطة أن يكون المجتهد مؤهلًا وملمًّا بشروط الاجتهاد وملتزمًا بضوابط النظر.