بعيون طفل فى المرحلة الابتدائية أتصلب كل جمعة أمام فاترينة أحد محلات الكاسيت الشهيرة بالمهندسين، أراقب باهتمام الشرائط المصطفة إلى جوار بعضها لاختار بعناية شريط الأسبوع، أثير غضب البائع وأنا أخرج صف الشرائط المحمل بصور منير بأكمله وأقرأ أسماء الأغانى عشرات المرات وأسأله عن الأفضل، وأسأل والدى حتى أتخيل محتواهم لاختار واحدا فقط مثلما هو الاتفاق مع أبى، وفى كل أسبوع كان اختيار جديد ورحلة جديدة.. وأفكار وأحلام جديدة أعيشها مع الملك.
هكذا بدأ عشقى لمنير، الذى أطلق أولى أغانيه الرسمية قبل ميلادى بحوالى 10 سنوات، فتوافر لى تراث كبير يمكننى أن أتنقل بينه فى كل أسبوع، بعدما أصبحت رحلتنا إلى محل الكاسيت بسببه جزءا مقدسا فى خروجة الجمعة مع والدى.. أنا واحد من أبناء الثمانينيات.. هؤلاء الذين عشقوا منير إلى حد الجنون، ومثلت كلمات أغانيه جزءا كبيرا من ثقافتهم وأفكارهم وأحلامهم.
أزعم أن الغناء بالنسبة لجيلى كان له أهمية خاصة، أتذكر بوضوح اهتمامنا بحفلات ساقية الصاوى، وموسيقى الأندر جراوند، وأزعم أيضا أن سنوات الغضب والتخبط الماضية بدأت تقتل فينا الشعور بالغناء وبأهميته، لم أكن أتوقع أن أعود للانبهار بأغانى الملك أو غيره، قبل أن أشاهد إعلانات ألبوم جديد لمنير، وأستمع للأغانى القليلة التى لا أعرف حتى الآن إن كانت ستنضم رسميا للألبوم أم لا، لأعود هذا الطفل الذى كان يقف أمام فاترينة الملك لا يعرف أى ألبوم سيختاره، ويتمنى أن يسمح والده بامتلاك ألبوم إضافى، أعود هذا الطفل الذى يستمتع بصوت الملك وكلماته الصادقة.
أستمع للأغنيات الجديدة لمنير لأكتشف أننى ما زلت أنبهر وأستمتع بالغناء، أستمع الآن وأنا قادر أن أكتب له "تعيش وتغنى"، وأن أطالبه مثلما كنت أهتف فى كل حفل "على صوتك بالغنا".. أعود الآن لأنتظر ألبوم منير بنفس اللهفة التى يستغرقها الطريق من كشك الشرائط إلى منزلنا، حيث سأغلق غرفتى وأبدا فى سماع الأغنيات الجديدة، بينما يقترب هو من إتمام عامه الأربعين فى الغناء.. أربعون عاما "ولسة بيجرى ويعافر.. ولسة عيونه بتسافر.. ولسة قلبه لم يتعب من المشاوير".. أستمع للأغنيات القليلة لأتذكر رحلتنا مع منير.. وكيف ارتبط هذا المغنى مع هذا الجيل بصورة فارقة.
رحلة عشقى لمنير مختلفة بعض الشيء، أذكر أنى كنت الوحيد تقريبا فى فصلى خلال المرحلة الابتدائية الذى يستمع له، ومع مرور السنوات شاهدت زملاء دراستى وهم يقعون فى غرامه واحدا تلو الآخر، ولاحظت كيف يتحول للنجم الأول لجيلنا مع الوقت.. أذكر أيضا أول حفل فى حياتى بدار الأوبرا المصرية وكان منير أيضا هو البطل.
منير فى هذا الوقت قرر ألا يزيد سعر التذكرة عن 15 جنيها، بينما كان النجوم يتبارون لرفع أسعار تذاكرهم، المنطقة المحيطة بالأوبرا بأكملها كانت تغلق بسبب حفل منير سنويا.. عساكر الأمن المركزى يحيطون المكان لتأمين الحفل للنجم الذى قرر أن يدفع الجماهير للعودة للحفلات الغنائية بعد سنوات طويلة غابت فيها الحفلات وانطفأت أضواؤها، عشت مع منير وعدد الشباب يتزايد فى كل حفل، ورأيت بوضوح كيف يدفع جيل صغير لعشق الموسيقى قبل عشقه، وهو يختار أعضاء فريقه باهتمام بالغ ليتحول كل عضو فى الفريق لنجم خاص لدى الجماهير، رومان بونكا على الجيتار، عبد الله حلمى على الكولة، ريكو على الإيقاع قبل أن يتحول إلى مغنى فيما بعد، وغيرهم.
حفلات منير أصبحت بالنسبة لجيلنا هى الحدث السنوى الأبرز، ننتظرها بفارغ الصبر، فى الجامعة ازداد عشق جيلى للملك لدرجة أننا فى حفل كازبيانكا فى الساحل الشمالى سافرنا دون أن نملك سيارات أو أموال للبقاء فى القرية التى تستضيف الحفل، وانطلقنا فى المواصلات خلف منير لنسهر معه على شاطئ البحر فى سهرة موسيقية كانت تستحق كل ما عانيناه، انتهت فى الثانية من منتصف الليل لنخرج منها دون أن نعرف كيف سنعود لمنازلنا.. أتذكر جيدا وأنا أجلس بجوار زملائى على الرصيف فى طريق الساحل الشمالى الساعة الثانية بعد منتصف الليل نتحدث عن جنوننا.. ونطرح حلولا بائسة للعودة للقاهرة ولكن نؤكد "الحفل كان يستحق".
أتذكر منير وهو يحاول استخراجنا من سجن الهواتف الذكية التى حاصرتنا، أذكر صوته وهو يقول "محتاج إديكم أكتر من موبايلتكم".. "كل حاجة فى حياتنا بقت معلبة خلوا اليوم ده للموسيقى الحقيقية".
أنا واحد من هؤلاء الذين حركتهم فى الثورة كلمات "إزاي"، ثم ذهبت لحفله الأول بعد حكم الإخوان لأشهد غيابا أمنيا متعمدا عن الحفل المعروف مسبقا عدد الآلاف الذاهبين له بالعين السخنة، ما زلت أذكر كلماته وهو يحذرنا أن هناك من يحاول منعنا من الغناء وتدمير الحفل، وتلمست بحّة حزن واضحة بصوته وهو ينهى غناءه مبكرا خوفا من أحداث مؤسفة وقعت بالفعل عقب انتهاء الحفل، شاهدته وهو يترك المسرح دون أن يعرف إن كان سيصعد له مرة أخرى أم لا فى ظل جماعة ربما لن تسمح بالغناء والتحريض والثورة التى يمكن أن يحركها مطرب يعرفون جيدا قيمته.
بالفعل لم يصعد منير للمسرح مرة أخرى سوى بعد 30 يونيو، وكنت واحدا ممن حضر أول حفل عقب تلك الثورة، وشاهدته يغنى والدبابات تحيط البوابات لحماية مئات الآلاف من هجمات إرهابية كانت تملأ الوطن، أذكر كلماته وهو يؤكد أننا سنظل نغنى وأن مصر لن تتوقف عن الغناء مهما حدث.
منير سيضيف عقب أيام قطعة جديدة لرحلته الطويلة، خطوة جديدة فى مشوار المغنى الذى لا أعرف كيف يظل قادرا على إبهارنا حتى الآن، ولا سر الطاقة التى تدفعه للغناء بهذه الروح طوال تلك السنوات، ولكن أعرف جيدا أن منير يستحق أن نشكره على كل ما قدمه، على كل هذه السنوات من العمل والتعب والموسيقى التى سيذكرها التاريخ جيدا، منير يستحق أن نعبر له عن كل الحب الذى نكنّه له الآن وليس بعد سنوات طويلة، يستحق للطاقة التى قدمها لنا بكلماته على مر هذا العمر.