تشرفت بأن أكون من تلاميذ العلامة الدكتور الطاهر أحمد مكى، الذى غادر دنيانا يوم الأربعاء الماضى.
درست «الأدب الحديث» و«الأدب الأندلسى» لعامين على يديه، أثناء دراستى فى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وفى هذه المساحة كتبت قبل شهور وأثناء مرضه: «فى مدرج الكلية كنا نجلس نحن طلاب الفرقة الثالثة ثم الرابعة نستمع إلى شرحه فى دراسات عن تاريخ الأدب الأندلسى، ونصوص أدبية حديثة فى الشعر والقصة القصيرة، كان المدرج يزيد على الألف طالب، كلهم يستمعون إلى هذا الرجل الذى يقول كلاما مختلفا، يتحدث عن الأدب ومن خلاله يعطى إسقاطاته عن الأوضاع السياسية، يشرح حضارة الأندلس، فتنخلع قلوبنا من شدة التأثر بمجدها الذى شيده عرب، وهدمه عرب أيضا، ولا أنسى له عبارة سمعتها منه أثناء شرحه: «لم يدخل الإسلام بلدا وخرج منها إلا فى بلاد الأندلس»، كان يقولها فى سياق نفهم منه مثلا رفضه للسلام مع إسرائيل دون أن يقول ذلك صراحة فى محاضراته، لكن كان يكفينا أن نفهم مقصده حين يحدثنا مثلا فى محاضرة عن «القصيدة التى فجرت ثورة» أثناء دولة الأندلس، وحين يشرح كيف كان ملوك الطوائف يتسابقون إلى وضع نهاية لهذه الدولة.
لا أنسى صوته وشكله وهو يروى لنا قصة الشاعرة الأندلسية العاشقة، حفصة بنت الحاج الركونية، تحدث عنها كنموذج للبنت التى أحبت وعشقت فجهرت بعشقها للشاعر أبى جعفر بن سعيد، ورفضت طمع أمير غرناطة الموحدى أبو سعيد عثمان بن عبدالمؤمن فى حبها، فقتل حبيبها، وهاجرت إلى بلاد المغرب هاربة من الأمير وناذرة نفسها لحبيبها الذى راح وظلت على عهدها حتى ماتت، ومما كتبته غزلا فى حبيبها: «أغار عليك من عينى رقيبى/ ومنك ومن زمانك والمكان/ ولو أنى خبأتك فى عيونى/ إلى يوم القيامة ما كفانى».
كان الدكتور مكى يذكر لنا هذا المقطع الشعرى قائلا: «اسمعوا أجمل ما قيل فى شعر الغزل»، وفى روايته لقصة «حفصة» كان يبدو شديد التأثر، وفى تعليقاتنا نحن بعد المحاضرة نربطها بما كان يتردد عن أنه ظل وفيا لقصة حب عاشها فى شبابه الباكر، حينما كان يدرس فى إسبانيا، وأشار إليها بطريقة ما فى الإهداء الذى كتبه فى مفتتح كتابه الرائد «دراسة فى مصادر الأدب»: «إلى راهبة.. إلى قلب كبير، وعقل ذكى وسعنى ذات يوم حين ضاقت بى الدنيا».
ذهبت إليه وأنا فى السنة الثالثة وكان فى مكتبه بالكلية، وقدمت نفسى إليه كأحد تلاميذه، وطلبت منه حوارا صحفيا لنشره فى جريدة الخليج الإماراتية وكان يرأسلها وقتئذ الصديق حمدين صباحى، فطلب منى أن أكتب له الأسئلة، ليجيب عنها مكتوبة أيضا، ففعلت، وحين قرأ الأسئلة بادرنى بسؤال: «هل هى أسئلتك؟» قلت: «نعم»، رد مبتسما: «بس دى صعبة»، ثم علق على سؤال حول شعر العامية قائلا: «أنا لا أشجع شعر العامية ولا أرى مستقبلا للعامية»، وتركنى لدقائق أرد موضحا، ثم قال: «ما شاء الله، ولدنا قارئ»، وطلب منى العودة إليه بعد ساعتين قضيتهما فى محاضرتين، ثم ذهبت إليه ليسلمنى الإجابات، وحين نشرت «الخليج» الحوار فى ملحق ثقافى منفصل، أثار ردود فعل تم نشرها وكتبها أصحابها باعتبار أن «مكى» هو واحد من أهم النقاد العرب، وأن ما أثاره من قضايا حول المشهد الشعرى والروائى العربى يستحق التوقف أمامه».
عاش الطاهر مكى عالما زاهدا، يعمل فى صمت، ويعطى بلا حدود، وحين كتبت عنه أثناء مرضه اتصل بى وزير الثقافة وقتها الدكتور عبدالواحد النبوى، مؤكدا أنه سيبحث كيفية تكريم هذا المبدع النادر، وكالعادة تبخر الوعد ولم يحدث شىء.
رحم الله أستاذى النادر «الطاهر أحمد مكى».