خلق الله عز وجل الخلق، وجعل أكرمهم البشر (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) ولقد شاءت حكمة الله أن يمر الإنسان في حياته بمراحل يتنقل فيها بين الضعف والقوة والصحة والمرض والغنى والفقر، ثم ينتهي إلى الموت لا محالة (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وتنظر الشرائع السماوية إلى الإنسان المكرم من قبل خالقه نفس نظرة التكريم في جميع مراحل حياته بغض النظر إلى قدرته على العطاء من عدمه .
فإن الإنسان أحيانا قد تتعطل قدراته وطاقاته بآفة المرض أو كبر السن، فتتعطل مواهبه، وتتأثر طاقته، ويفقد شيئا مما يساعده على مباشرة حياته بشكل سليم ، وليس الإنسان في هذا الحال مسئولا عن كبر سنه أو شيخوخته، وليس سببا في تعطيل مواهبه.
وإذا كان الإنسان قد تصيبه هذه الأعراض الطبيعية فإن الإسلام أوجب علينا رعاية غير القادرين على القيام بشأن أنفسهم وإعانتهم والتخفيف عنهم ومراعاة حالهم.
وهذا شأن الإسلام في رعاية غير القادرين؛ فالأطفال الذين لا يستطيعون نفع مجتمعاتهم، وليست لديهم القدرة على العطاء لضعفهم يوجب الإسلام على أولياء أمورهم العناية بهم، وكذلك كبار السن والشيوخ وأصحاب الحاجة يوجب الإسلام أيضا عنايتهم ورعايتهم، ويعد الإسلام المقصر تجاه رعاية الطفل بالقسوة عليه أو إهماله، وكذا من لا يوقر الكبير ليس على أخلاق المسلمين.
فالإسلام يقرر بداية أن من آداب الإسلام أن نوقر الكبار ونحترمهم، ومن أقوال رسولنا الأكرم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا" ، ويقول -صلى الله عليه وسلم: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة..."
ولقد أنكر رسولنا إنكارا شديدا على أئمة يطيلون صلاتهم في حال إمامتهم للناس وذلك بعد أن اشتكى إليه أحد صحابته أنه يتأخر عن الصلاة من أجل تطويل الإمام بها، قائلا: "إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة"، ومخطئ من يظن أن العالم سيكون أفضل لو كان كله من الشباب الفتي القادر على العطاء والبذل العضلي، وأن مرحلتي الصغر والكهولة عالة على الشباب القادرين على العطاء فما أصبح الشباب شبابا إلا بعد مرورهم بمرحلة ضعف الطفولة ولا منأى لهم عن ضعف الكهولة إن مد الله في أعمارهم.
والطفولة ليست فاقدة العطاء حقا فهي وإن فقدت القدرة على التنمية لمجتمعاتهم بالمجهود البدني إلا أنها مصدر دفع معنوي للآباء المنتجين فهم مصدر البهجة والشحن المعنوي الدافع على العمل من أجل كفالتهم والقيام بشأنهم، (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وإذا أردت أن تقف على هذا فانظر إلى رجلين رزق الله أحدهما أولادا وحرم الآخر من هذه النعمة، كيف يعملان وينتجان، ثم إن الأطفال وإن كانون يعانون الآن فهم من سيعين غدا.
وكذا من دخلوا الشيخوخة ليسوا بعالة على مجتمعاتهم فقد أفنوا أعمارهم عطاء لمجتمعاتهم وحين نتولاهم بالرعاية فليس مَنًّا مِنَّا عليهم، بل ردٌ لبعض فضلهم، فلولا رعايتهم لنا في صغرنا ما كنا ولا قدرنا على ما نؤديه لمجتمعاتنا وإن كنا اليوم نرعاهم فغدا سنحتاج إلى من يرعانا مثلهم، ثم هم وإن كانوا غير قادرين على العطاء البدني إلا أنهم كنز الحكمة والخبرة التي يحتاجها الشباب حتى لا تتحول قوتهم إلى قوة هدم وتدمير لا قوة بناء وعمارة، فربما منعت مشورة أحده حربا تأكل اليابس والأخضر لو اندلعت، وربما بمشورة أحدهم نخرج من مأزق مدمر لحياتنا لو ترك لاندفاع الشباب وقوتهم.
إن الرحمة بالضعفاء وحسن رعايتهم والقيام بشأنهم لاسيما المسنين المرضى وتخفيف آلامهم يتوافق مع تعاليم الشرائع السماوية والأعراف البشرية الصحيحة، وهو في ميزان فاعله، وهو باب يوصل صاحبه إلى الجنة في شريعتنا "رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف. قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أولا كلاهما فلم يدخل الجنة" أي بطاعتهما والقيام بشأنهما.
وإن ما درجت علية مؤسسات الرعاية الاجتماعية والصحية في القيام بشأن هؤلاء في أماكن الإيواء ودور المسنين وغيرها وما يسمى بالعلاج التلطيفي لتخفيف الآلام عنهم يحمد لفاعليه ولهم الأجر والمثوبة عليه، ولكن الحذر كل الحذر من الانحراف الذي أصاب البعض فيحول التلطيف إلى موت يسمونه القتل الرحيم، بدعوى تخفيف الآلام عنهم ولا أدري كيف يكون قتلا ورحيما في آن واحد!.
إن الشرائع السماوية جميعها ترفض هذا المسلك، فحفظ الحياة لجميع البشر حق مكفول ومقصد من مقاصد شرعنا الحنيف طالما بقي في الإنسان نفس يتردد، وهو قرار لا يملكه الطبيب ولا أسرة المريض ولا المريض نفسه، فالنفس البشرية ليست ملكا إلا لخالقها، ولسنا بأرحم به من خالقه الذي أبقاه حيا لحكمة يعلمها وهو قادر على أن يتوفاه في لحظة.
ولو جاز إنهاء الحياة لشدة المرض لأجازه الله لأيوب عليه السلام فما من بشري مر بما مر به من الأذى والمرض، فاحتسب صابرا حتى شفاه الله، ثم كيف يكون القتل رحيما وفيه يقول ربنا: ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) ؟!.
إن شريعة الإسلام ترفض رفضا صريحا ما يسمى بالقتل الرحيم، وتشير النصوص إلا أنه جناية قتل عمد توجب القصاص ممن يقوم به أيا كانت حالة المريض وأيا كان نوع المرض الذي يعاني منه حتى يتوفاه الله أو يشفيه.