اتفقنا أنا وصديقى الكاتب الرائع حمدى عبدالرحيم، على الذهاب سويًا إلى أستاذى الناقد الكبير الدكتور محمود الربيعى، لكنه ذهب وحده، فحرمنى، واستمتع هو بالجلوس فى حضرة أستاذ كبير، يسأله ويناقشه ويستمع إليه، ثم كتب حواره الجميل المنشور فى عدد «صوت الأمة».
أعادنى الحوار إلى سنوات مضت وبالتحديد عامى 1983 و1984، كنت خلالها تلميذًا يجلس فى مدرجات كلية «دار العلوم» جامعة القاهرة، وكان «الربيعى» أستاذى الذى أستمتع بالحصول منه على ساعتين أسبوعيًا فى «النقد الأدبى»، ولأن الرغبة فى دراسة الأدب كانت دافعى الأول للالتحاق بهذه الكلية العريقة، كنت لا أترك محاضرة واحدة فى دراسة الأدب، تاريخًا ونصوصًا ونقدًا، لأساتذة قامات مثل «الربيعى» و«الطاهر مكى» و«أحمد هيكل» و«على عشرى زايد»، فهؤلاء وجدت فى رحابهم ما أحبه فى دراسة الأدب.
لم يكن «الربيعى» أستاذًا عاديًا، يأتى إلى الكلية ليلقى محاضراته بصورة نمطية ويمضى، ولم يكن يملأ مساحة وقت بترديد كلام أكاديمى خالص، مزود بمصطلحات أدبية جافة، يرى بعض المتخصصين فى تكرار قولها أنها ترفع من مكانته العلمية، وإنما كان يملك خلطة سحرية، تجمع بين «تمكن الأكاديمى» و«تذوق النص» و«سحر الحديث» و«الانفتاح الثقافى»، و«هيبة المحاضر» و«احترام الذات» و«عداء الانغلاق» و«حوار الطلاب».
فى مسألة «الانفتاح الثقافى» و«عداء الانغلاق» كان يظهر تجليه فى تدريسه لنا «القصة القصيرة» من خلال كتاب «الصوت المنفرد- مقالات فى القصة القصيرة»، تأليف الكاتب والقاص والناقد الأيرلندى «فرانك أوكونور» «1903 - 1966»، وقام هو بترجمته عام 1969، وراجعه: محمد فتحى، وصدر عن «الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر» التابعة لوزارة الثقافة، والكتاب «عمدة» فى مجاله، يقدم لنا القصة القصيرة عند رموزها العالميين، من روسيا «جوجول» و«تشيكوف»، و«ترجنيف» الذى قال: «لقد أتينا جميعا من تحت معطف جوجول»، وموباسان فى فرنسا، والأيرلندى «جيمس جويس»، و«الأمريكى» ارنست همنجواى «والإنجليزية «كاثرين مانسفيلد»، وغيرهم.
كان هذا الكتاب المهم هو مقررنا فى النقد الأدبى فى السنة الدراسية الثالثة بالكلية، ولم يقتصر الكتاب فى تفرده على أنه إطلالة على القصة القصيرة عند روادها العالميين، وإنما هو قراءة للنص الأدبى من حيث علاقته أحيانا بالحالة الشخصية والاجتماعية لمبدعه والجماعات الهامشية التى يختارها فى إبداعه، وكانت حالة «موباسان» كما يأتى فى الكتاب، وكما كان يشرح لنا «الربيعى» هى الأكثر تعبيرًا فى ذلك، حيث تسلح بموضوعه الخاص، وهو الجماعات المغمورة جنسيًا فى القرن التاسع عشر الأوروبى: «عالجه آخرون من قبل ولاشك، ولكنه كان الرجل الذى طبعه بطابعه، الرجل الذى ربط نفسه علانية بالبغايا، وبالفتيات ذوات الأطفال غير الشرعيين، لقد عومل هؤلاء كنكتة «قبيحة حقا، حتى أرساهم هو كموضوع حقيقى» و«ما كاد يبلغ الشهرة حتى حطمه الزمن الذى اجتاح كل الجماعات المغمورة التى كتب عنها، وتلك هى كما قال أرنولد، مأساة الشاعر الحقيقى: «إننا نصير إلى ما نتغنى به».
كان «الربيعى» يصول ويجول أثناء شرحه هذا المنهج لنا، وكان يفيض بمعارفه حول كل مايتحدث عنهم، وكان هذا يحدث فى توقيت بلغت فيه الجماعات المتطرفة درجة عالية من النشاط داخل الجامعة وخارجها، وكان هو له موقفه المضاد لهذه الجماعات مما جعله هدفًا لهم فى الهجوم، وكان تدريسه لـ«تشيكوف» و«موباسان» و«همنجواى» وغيرهم مدخلًا لهؤلاء فى هجومهم، فماذا حدث؟
نتابع غدًا