مجددا عاد القضاة إلى الواجهة بعد الجدل الذى أثير حول تعديل مادة فى قوانين الهيئات القضائية، وقبل أن أتحدث عن هذا الجدل وضرره ونفعه أيضاً، سأنقل التعديلات كما هى حتى يطالعها القارئ.
التعديلات التى صدرت عن مجلس النواب وصدق عليها الرئيس السيسى الخميس الماضى، تتناول آلية اختيار رؤساء الهيئات القضائية، فرئيس محكمة النقض يتم اختياره بأن يقوم المجلس الأعلى للقضاء باختيار 3 نواب من أقدم 7 نواب فى المحكمة وإرسال الأسماء الثلاثة إلى رئيس الجمهورية، أما رئيس مجلس الدولة فيتم اختياره من عقد الجمعية العمومية الخاصة بمجلس الدولة، لاختيار 3 نواب من أقدم 7 نواب لرئيس مجلس الدولة الحالى، وترسل أسماء الثلاثة الذين تم اختيارهم إلى رئيس الجمهورية، لاختيار واحد من بينهم، وهو الأمر نفسه بالنسبة لاختيار رئيس هيئة النيابة الإدارية حيث تعقد الجمعية العمومية الخاصة بهيئة النيابة الإدارية وتختار 3 نواب من أقدم 7 نواب لرئيس هيئة النيابة الإدارية الحالى، وترسل أسماء الثلاثة الذين تم اختيارهم إلى رئيس الجمهورية لاختيار واحد من بينهم، وكذلك الحال مع رئيس هيئة قضايا الدولة، الذى يتم من خلال عقد الجمعية العمومية الخاصة بهيئة قضايا الدولة وتختار 3 نواب من أقدم 7 نواب لرئيس هيئة قضايا الدولة الحالى، وترسل أسماء الثلاثة الذين تم اختيارهم إلى رئيس الجمهورية لاختيار واحد من بينهم.
ووضعت التعديلات أحكاماً مشابهة، حيث تطلبت أن يتم إرسال الأسماء الثلاثة إلى رئيس الجمهورية قبل نهاية مدة رئيس الهيئة القضائية الحالى بـ60 يومًا على الأقل، ليختار واحدا من بينهم رئيسًا، على أن تكون مدة رئاسته للهيئة القضائية 4 سنوات أو المدة الباقية له حتى بلوغه سن التقاعد المحدد بسن السبعين حتى الآن، وفى حالة عدم إرسال أسماء الثلاثة قبل نهاية مدة رئاسة رئيس الهيئة الحالى بـ60 يومًا أو أرسل عددا يقل عن ثلاثة مرشحين أو أرسل أسماء لا تنطبق عليها الشروط يُعين رئيس الجمهورية رئيساً للهيئة القضائية من بين أقدم سبعة من النواب دون الرجوع للهيئة.
هذه هى التعديلات التى صدرت وأثارت غضب بعض القضاة، وأثارت فى الوقت نفسه حالة من الجدل حول أحقية القضاة فى أن يتعاملوا مع التعديلات بالشكل الذى خرجت به بيانات صدرت عن نادى القضاة ونادى قضاة مجلس الدولة، والتى سعت فى غالبيتها إلى تسيس الموضوع، والرد على التعديلات بمنطق القوة، وليس منطق الحوار وترجيح الرأى الغالب، وهى القاعدة التى تربى عليها قضاة مصر.
بداية فأنا لست مع أو ضد هذه التعديلات، وأن كنت أرى أنها تساعد فى عملية تجديد الدماء، وربما تحتاج إلى أن يتبعها تعديلات أخرى تتناول قضية تخفيض سن القضاة من 70 عاما إلى 65 عاما، خاصة فى مسألة تولى المناصب القضائية، كرئاسة الهيئات والمحاكم وغيرها من المناصب، لأنه إذا كنا نتحدث عن التجديد وإعطاء الفرصة للشباب، وللأجيال الوسطى لكى تظهر ويكون عليها دور فى التجديد، فعلينا أن نقتحم هذا الملف بجرأة، وأن نضع حداً لعملية السن، على الأقل فى مسألة المناصب القضائية من خلال وضع حد زمنى معين، قد يكون 65 سنة أو أقل، مع الإبقاء على سن الـ70 لقضاة المنصة فقط، فمن يتولى رئاسة محكمة أو هيئة قضائية يكون محكوماً بسن الـ65 أو السن الآخر الذى يتم الاتفاق عليه، أما من يريد الاستمرار على المنصة فيبقى إلى سن السبعين.
بالعودة إلى ما أثارته أندية القضاة من جدل حول التعديلات الأخيرة، فإننى أعتبر ما أثير فى بيانات هذه الأندية ليس فى صالح القضاة أنفسهم، لأن من يقرأ التعديلات جيداً بموضوعية سيجد أنها لا تتعارض مع مبدأ استقلال القضاء، كونها لا تمس هذه الاستقلالية، بل أن كل هيئة هى التى ترشح رئيسها من خلال رفع ثلاثة أسماء إلى رئيس الجمهورية ليختار من بينها، وهو ما يؤكد أن الاختيار فى الأساس بيد القضاة أنفسهم، ولا يعد ذلك تغولا من سلطة على أخرى، بل هو يعبر عن احتفاظ كل سلطة بالحق الممنوح لها وفقاً للدستور والقانون، لذلك كان قرار مجلس الدولة والنيابة الإدارية والهيئات القضائية الأخرى الالتزام بالتعديلات وتنفيذها، هو دليل على أن التعديلات لا تخالف الدستور، وليست بالشكل الذى حاول البعض توصيفه.
الأمر الآخر أن ردود أندية القضاة على التعديلات أخرجت الأمر عن مساره القانونى والقضائى أيضاً، واختارت له طريق السياسة، وهنا مكمن الخطورة، فإذا كان لدى البعض اعتراض على القانون أو التعديلات فأمامه طرق قانونية يستطيع أن يسلكها للحصول على حقه إذا كان له حق، لكن أن يستبدل القانونى بالسياسى، ونقرأ بيانات مليئة بالتهديد والوعيد، فهذا أمر خارج سياق التعامل، ويضر بمصالح القضاة، وبوضعهم فى المجتمع بشكل عام، فإذا كان القاضى الذى يطبق القانون لا يريد أن يلجأ للقانون، ويريد الإمساك بعصا السياسة والتهديد فكيف نطلب من المواطن العادى أن يثق فى القضاء وأحكامه.
القضية من وجهة نظرى هى أكبر من فكرة التعديلات الأخيرة، فهى مرتبطة برغبة البعض فى تحويل الأمر إلى ما يمكن تسميته صراع القوة والبقاء بين السلطات، فكل سلطة تريد أن تظهر للأخرى أنها الأقوى، ولا يمكن أبداً أن تخضع لها، وهنا نكون أمام وضع يجب العمل على تصحيحه، لأن هذا الصراع أن افترضنا وجوده فهو ضار جداً بالتجربة التى تعيشها مصر فى الوقت الراهن، بل إنه يعد أول خطوة فى الهدم وليس البناء، وهو ما يجب أن يعيه القضاة جيداً، وأن يدركوا أن المسألة أكبر من فكرة أظهار القوة فى معركة سيكون الفشل هو مصيره.
قد أكون مبالغاً فى تقديرى للموقف، لكن عذرى الوحيد أن لهجة الصوت العالى التى سيطرت على بعض ممن يرفضون التعديلات من السادة القضاة الأجلاء، هى لهجة مخيفة، كونها تشير إلى خلل ما يحتاج لعلاج، وهو خلل مرتبط بمنطق القوة الذى سيطر على بعض منا، وهنا تكمن أهمية العودة مرة أخرى إلى فكرة إعلاء الصالح العام على الخاص، لأننا نعيش ظروفاً لا تحتمل مثل هذه اللهجة، ولا الاحتماء خلف أسوار وهم القوة، لأن القوة الوحيدة فى الدولة حالياً هى قوة الشعب، وهى رسالة يجب أن يدركها الجميع.