مما لاشك فيه أن كثيرين من المهتمين بالشأنين الديني والسياسي وأنا واحد منهم قد أصابوا في وصف زيارة بابا الفاتيكان بالتاريخية، ربما لأنها جاءت بعد ما يقرب من عقدين من الزمان يفصلان بين أخر زيارة لبابا الفاتيكان إلى مصر وبين الآن؛ فكما هو معروف للكافة أن "جون بول الثاني" هو أخر بابا للفاتيكان يقوم بزيارة رسمية إلى مصر عام 2000، ومن ثم فعلى مدار 17 عامًا، لم يقم أي بابا للفاتيكان بزيارة لمصر، جراء توتر العلاقات بين الفاتيكان والأزهر، وهو الأمر الذي منع "بنديكت السادس عشر"، من زيارة مصر طوال فترة وجوده على الكرسي البابوي، وذلك تنديدًا بما تعرض له الأقباط في مصر، خاصة بعد حادث تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، في ليلة رأس السنة لبداية عام 2011، والتي راح ضحيتها ما يزيد عن 23 ضحية.
ولكن وبفضل جهود الدبلوماسية المصرية التي سبقت قدوم البابا، تمت الزيارة ونجحت بأكثر مما توقع أعداء مصر في الداخل والخارج، خاصة إنه وعلى الرغم من وجود "البابا فرانسيس" على الكرسي البابوي منذ أكثر من أربعة أعوام لم يقم فيهم بأي زيارة إلى مصر، إلا أن عددًا من المسؤولين المصريين، ورجال الدين والدولة، هم من قاموا بزيارة الفاتيكان خلال هذه الفترة؛ حيث التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بالبابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، وذلك في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2014، في إطار زيارة الرئيس لإيطاليا، ضمن أول جولة أوروبية له منذ تولى حكم جمهورية مصر العربية في شهر يونيو (حزيران) من العام نفسه، وتبقى زيارة شيخ الأزهر،الإمام أحمد الطيب، إلى الفاتيكان في 24 مايو (أيار) من عام 2016 الماضي صاحبة الأثر الأكبر في تمهيد الأجواء تماما، حيث اتفق القطبين الدينيين الأكبر في العالم على تنسيق الجهود بين الأزهر الشريف والفاتيكان من أجل ترسيخ قيم السلام، ونشر ثقافة الحوار والتسامح والتعايش بين مختلف الشعوب والدول، وحماية الإنسان من العنف والتطرف والفقر والمرض.
أما عن الأهمية التاريخية لزياة "بابا السلام في مصر السلام" ذلك الشعار الذي أعلنته الفاتيكان، وأطلقته على المواقع المختلفة لوصف زيارة البابا فرانسيس إلى مصر، فتكمن في تأكيدها بما لايدع مجال للشك بأن التلويح بـ "سلاح الدين" لم يعد يجدي استخدامه الآن من جانب كل جماعات الشر والإرهاب لتعكير الأجواء بين عنصري الأمة المصرية، ولعل متانة قوة مصر الروحية القائمة على صفوة العقيدتين"الإسلام والمسيحية" اللتين تتأسسان على مبدأ المواطنة والتعايش بسلام على تراب الوطن الواحد، هى هى التي أوحت للفاتيكان بالإشارة إلى أن مصر آمنة وسالمة، حتى بعد يوم أحد الزعف المأساوي الذي عاشه الأقباط والمصريون جميعًا، عندما ضرب الإرهاب كنيستين في مدينتي طنطا، والإسكندرية.
ومن أهم نتائج الزيارة أنها أكدت على أن التلويح بسلاح الدين المغلف بأساليب شيطانية تضغط على العصب العاري في إحداث الفتنة الطائفية أوالعرقية ليس أمضى الآن، كما اتضح من كلمات البابا فرنسيس التى تدعو إلى ترسيخ روح الاحترام المتبادل بين الأزهر والفاتيكان، والعمل على إجراء حوار بين الأديان المختلفة، وهو ما سيؤدي بالتبعية إلى القضاء على التطرف والعنف العالق بثوب أصحاب هذه الأرض التي احتضت الديانات القديمة، ورعتها وساهمت في تعريف العالم بعبادة الواحد الأحد منذ فجر التاريخ، وهى لم تعرف التهميش أو الإقصاء يوما، حيث إن التهميش هو أحد الأسباب الرئيسية للتطرف، بحسب جان لوي بيير، كاردينال الكنيسة الكاثوليكية، ورئيس المجلس البابوي لحوار الأديان.
لقد أكد "بيير" في مستهل الزيارة على أن المسيحيين والمسلمين عاشوا في وئامٍ لعقود، ولكن في الوقت الحالي توجد قوى يصعب السيطرة عليها - يقصد الجماعات الإرهابية التي تستخدم من الدين سلاحا - ، مشيرًا إلى أن أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت لزيارة البابا هي مناقشة قضية الأمن في مصر، والذي يعتبر مصدرًا للقلق بالنسبة للفاتيكان، نظرًا لأنه يعتبر من مسؤوليات الدولة المصرية في الأساس، ومن جانبا نحمد الله أن الزيارة تمت في أجواء أمنية غاية في الاحترافية، الأمر الذي جعل البابا يخرج عن البرتوكول في كثير من المواقف، وبشكل تفاعلي مباشر مع الجماهير التواقة للقرب منه والسلام عليه، وربما كان المشهد البديع الذي يطل فيه من شرفة سفارة الفاتيكان بالزمالك أكبر دليل علمى على توفر الأمن في مصر بشكل لا يدعو للقلق.
جدير بالذكر أن دولة الفاتيكان، كانت وللمرة الأولى، قد تم إدراجها ضمن قائمة الدول الموضوعة في خطر، والتي يجب حمايتها من الإرهاب والعنف السياسي، خاصة في ظل التهديدات المتكررة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش(، وكان هذا التنظيم الملعون قدنشر مقطعًا دعائيًا له، يظهر فيه العلم الخاص بهم وهو يرفرف فوق دولة الفاتيكان في ساحة القديس بطرس، أكبر ساحات الفاتيكان، وذلك في 13 ديسمبر (كانون الأول) 2015، وكلها كانت مؤشرات سلبية تحول دون اتمام زيارة رأس هذه الدولة، وأكبر مرجعية دينية مسيحية على وجه الكرة الأرضية، لكنها خيبت آمال كل من يتاجرون بسلاح الدين أو يريدون الشر لمصر الكنانة.
ها هو اليوم الذي جاء فيه البابا فرنسيس حاملا بين جوانحه روح المحبة والسلام، لينتقل براحة تامة داخل أرض السلام ويلتقي الرئيس عبد الفتاح السيسي في القصر الرئاسي، ثم إلى زيارة شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، وفي أعقاب زيارة الأزهر يتوجّه إلى المؤتمر العالمي للسلام لإلقاء كلمته وللاستماع إلى كلمة الشيخ الطيب، وبعدها التقى بابا الفاتيكان بممثلين من المجتمع المدني، وأعضاء السلك الدبلوماسي، قبل أن يقوم بزيارة إلى البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، فضلا عن الاحتفال المهيب بالقداس الإلهي باستاد الدفاع الجوى والصلاة مع أكثر من 35 ألفا، وتناول الغداء مع الأساقفة، وبعدها التقى بالكهنة والرهبان والراهبات والإكليريكيين، قبل أن يتوجَّه إلى مطار القاهرة الدولي ليستقلّ الطائرة عائدًا إلى روما مرة أخرى.
عاد البابا إلى موطنه ومقره روما، لكنه ترك مشاهد ستظل محفورة بحروف من نور في ذاكرة كل المصريين "مسلمين ومسيحيين"، حين فتح بوابات الأمل مشيدا بدور مصر تاريخيا وحاليا، وذلك في كلمته في مؤتمر مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وخاصة حرص خلال كلمته على قول بعض الكلمات باللغة العربية وكان منها "مصر أم الدنيا"، و"مصر تثبت أن الدين لله والوطن للجميع"، واختتم حديثه بـ"شكرا وتحيا مصر"، وقوله: "أنا سعيد بتواجدي على أرض الحضارة العريقة مصر التي تصمد في هيبة وكأنها تتحدى العصور".
وانطلاقا من إدراكه الصادق بأن روح السلام التي تسكن نفوس المصريين تقوي على الفتك بأعتى القوى الأسلحة، وعلى رأسها جماعات الشر التي تتاجر بسلاح الدين أكد على أنه "لدى مصر واجب فريد في تعزيز السلام في المنطقة، رغم جرحها على أرضها نتيجة العنف الذي تسبب في ألم العديد من الأسر"، مضيفا إن "مصر بفضل تاريخها وموقعها الجغرافي الفريد تلعب دورا مهما في منطقة الشرق الأوسط لتنجو بها من دوامة العنف الدائرة"، مشيرا إلى أن "مصر اليوم تثبت أن الدين لله والوطن للجميع".
ومن جانبه قال الرئيس السيسي: "أجدد الترحيب بقداسة البابا فرنسيس في أرض مصر ضيفا عزيزا وشخصية فريدة وقيادة دينية وروحية، ذات مكانة رفيعة يجلها الملايين من البشر في كافة أنحاء العالم من كافة الأديان على حد سواء" وبادله حبا بحب قائلا : "يطيب لي أن أؤكد كل الاعتزاز والتقدير لشخص قداسة البابا ومواقفه الإنسانية النبيلة التي تفتح طاقة الأمل في نفوس البشر تجمع ولا تفرق.. توحد ولا تشتت.. تزرع الخير والأمل في قلوب الناس.. وتنزع الشر واليأس من حياتهم".
وتابع السيسي: "نعتبر زيارتكم التاريخية إلى مصر اليوم والتي تتواكب مع الاحتفال بالذكرى السبعين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والفاتيكان بمثابة رسالة تؤكد ما ترتبط به مصر والفاتيكان من علاقات تقدير واحترام، تتأسس على إيمان مشترك بالقيم الأخلاقية الرفيعة التي رسختها الأديان السماوية، لتكون دستورا لتعايش البشر على الأرض في سلام ومحبة، وأساسا لمنع الصراعات التي لا تنشر سوى العنف والدمار بين أبناء الأسرة الإنسانية".
شكرا قداسة البابا فرنسيس على محبتك لمصر، والتي أظهرتها خلال تواجدك بيننا، وهى لم تعكس فقط معرفتك جيدًا لثقافة وتاريخ هذه البلاد، بل أيضا تثبت أنك مُطلع جيد على واقع مصر، ولن ينسى المصريون لقداستكم ذلك المقطع المُصوَّر الذي ظهرت فيه موجِّهًا كلمتك إلى الشعب المصري، واصفا إياه بالحبيب، لتبدأ بإلقاء السلام الإسلامي "السلام عليكم"، ووصفك لمصر بأنها مهد الحضارة، وهبة النيل، وأرض الشمس والضيافة، حيث عاش الآباء البطاركة والأنبياء، وحيث الله، الرؤوف والرحيم، القدير والواحد، أسمع صوته، مؤكدًا أنه جاء صديقًا، ورسولًا للسلام، وحاجًّا إلى الأرض التي زارتها العائلة المقدسة قبل ألفي عام، والتي قدمت الكثير والكثير لهم، والتي اعتبرت ملجأ وضيافة لهم.